عن أمسية بلا حواجز…
رزان زيتونة
الفرق بين ما قبل الحاجز وما بعده، يختصر الفرق بين سوريا قبل وبعد الثورة. قبل الحاجز تبقى المسافات محملة بالخوف والغربة. الشارع الذي قضيت فيه طفولتك لا يتذكرك، والمفرق الذي عقدت فيه أول مواعيدك الغرامية، يحتله عنصر مدجج بالسلاح مقلوب القسمات. والحواجز تطير وتحط في أحيان كثيرة في غير المكان المتوقع، وهنا يصبح لاجتيازها نكهة النصر الخالصة.
ما بعد الحاجز في البقعة المحررة نظرياً، البيت بيتك… هكذا كانت زملكا في اإتصام الخميس المسائي. أغلقت المدينة أبواب محالها التجارية في التزام كامل بالإضراب، وبدت شبه خالية إلا من مجموعات صغيرة من الشبان في مقتبل العمر، “ينظمون” حركة السير في الشارع الذي قطع بالحجارة لإخلاء الساحة للمتظاهرين.
هؤلاء أعضاء تنسيقية “الولد ولد ولو صار قاضي بلد”، يمتازون عنا بأن الخوف لا يعرف طريقاً لقلوبهم الجميلة، لذلك أصروا بعد بدء المظاهرة على اطلاق الألعاب النارية، وتجاهلوا كل نداءات الكبار لوقفها لأنها تبث الذعر في النفوس.
في تلك المناطق أصبح من الصعب التمييز بين صوت الألعاب النارية وصوت الرصاص. حتى مع باقات الألوان تنتثر في السماء وتضفي أجواء من الحياة، أصبحنا على وشك نسيانها. في الحقيقة، كانت الألعاب النارية غاية في الجمال، وجعلتنا نسرح بالمخيلة لدقائق… حول يوم قريب لازلنا ننتظره…
الخطوات الفاصلة بين الصمت والطرقات المغلقة والمعتمة، وبين بقعة المظاهرة، هي أشبه بالمرور عبر آلة الزمن. لا أذكر ما يشبهها إثارة إلا باص الرحلة المدرسية يدخل مدينة اللاذقية وعيوننا تلتصق بزجاجه بحثاً عن الخط الأزرق يلوح من بعيد.
عند الوصول، النشطاء يروحون ويجيئون من حولنا، يشرفون على ويقيَمون ما حضَروا له. يتبادلون أطراف الحديث بين بعضهم البعض ومع ضيوفهم، حول آخر المستجدات، والمجلس الوطني، والعرعور، والعلمانية والجيش الحر… لكن سخونة الحديث عبثاً تؤثر في البرد القارس لمساء من مساءات كانون الثاني… وحدها طقوس المظاهرة تفعل.
في قلب الساحة، القاشوش يعلو صوته بالهتاف – ولكل مظاهرة قاشوشها- والجموع تردد من ورائه ومن قبله حتى تختلط الأصوات والهتافات ويضطر إلى تغيير “اللحن” لإعادة ضبط الاوركسترا. الرقصات التي ابتدعتها الثورة السورية تذكر غير الشباب بما قد لا يرغبون بتذكره، بعد فترة قصيرة من المشاركة! التقافز والجلوس جماعيا قبل النهوض على طريقة البركان لمرات عديدة متتالية… ومع ذلك، ما الذي يمكن أن يكون أفضل من الرقص على ألحان “يلعن روحك ياحافظ” لإثبات أنه “مش مهم فرق السنين!”
تستأثر الثائرات بجزء من مقدمة الساحة، صبايا وأمهات قدمن مع أطفالهن، من غير مكان في زملكا ودمشق. إحداهن أشارت إلى سيدة متقدمة في العمر تقف في الصف الأمامي، على أنها والدة شهيد، ووالدة الشهيد أشارت إلى صورة كبيرة لشاب جميل، يحملها أحد المتظاهرين، هذا ابني، الشهيد، قالت. ضممتها إلي وقد تلعثمت كلماتي، وتسللت إلى الصفوف الخلفية بينما كانت إحدى صبايا الميدان تلقي كلمة، والهتاف يعلو “شامية شامية”… من قال أن العودة إلى عصبياتنا الأولى ليست مبهجة… أحيانا… وما أجمل الهتاف للشام وصباياها.
بدأ الهتاف ونحن معه، نمر على المدن والمناطق السورية واحدة تلو الأخرى، حتى جلنا في بلدنا من أقصاها إلى أقصاها، لكل منها انحناءة وتصفيق وفداء ومحبة… لكن عندما وصلنا إلى داريا، بكيت حتى اختنق صوتي. أفتقد يحيى بشدة. يحيى وأصدقاؤه لا يشبهون أحداً عرفته خلال الثورة. هم ثورة في قلب الثورة. من قبلها، وسيستمرون بعدها. هم ما أستطيع قراءته وإحساسه بوضوح تام وسط المتناقضات كلها التي لم أعد أعلم كيف أتعامل معها. هم من يشبهون أنفسهم في كل وقت، ومن يعيدون شيئاً من السكينة إلى الروح المتعبة بالتفاصيل اليومية التي لا تشبه في شيء مهرجان الفرح ذاك…
إنتهت المظاهرة وعادت الساحة خالية وكئيبة ومظلمة، لكنها لاتزال داخل الحاجز. قد يطير الحاجز في أية لحظة ويحط داخلها، أو يتذرر إلى مئات الجنود والعناصر الأمنية التي تقتحم المدينة وتستبيحها، لكن أهلها يعاودون في كل مرة ما سبق وأن بدؤوه، منذ أن أحسّوا في المرة الأولى، الفرق بين أن نعيش قبل الحاجز، أو بعده وبدونه… وحيوا زملكا والغوطة… حيينا…