على جانبي الحياة في إدلب
في مدينتي إدلب الخاضعة لسيطرة النظام منذ 10 آذار/مارس 2012، أعيش مع عائلتي التي تفضل الحياة في بيتها رغم معارضتها للنظام على العيش في مناطق اللجوء رغم أنها محررة. أعمل مدرّسة في منطقة محررة قريبة من إدلب، تضم الكثير من سكانها ممن أخرجهم بطش النظام. ولأجل أطفال هؤلاء الذين يرون من خلالي مدينتهم وماضٍ اشتاقوا إليه، وأرى فيهم رضا لضمير يقتلني وثورة افتقدها، أستمر.
أتنقل مع زميلاتي بباص صغير(سرفيس) لنقل المعلمات. هذا الباص الصغير المعروف لكافة الأطراف، يشكل مجتمعاً صغيراً يضم المؤيدات للنظام والحياديات خوفاً من الجميع والمعارضات، وهذا يفرض حذراً في الحديث الذي يقتصرعلى المطبخ فهوالنقاش الاقل تطرقاً للسياسة.
نمرّ في طريق خروجنا من إدلب بثلاثة حواجز عسكرية تابعة للنظام ومثلها للثوار، حيث لا يبعد آخرحاجز للنظام عن أول حاجز للثوار سوى كيلومترين اثنين.
في شهر١٢ كانون الأول/ ديسمبر 2013، اوقفنا حاجز (الرودكو) وهو ثاني حواجزالثوار، يتبع للواء التوحيد. شاب لايتجاوز العشرين من العمر، اعتدنا على رؤيته يومياً بوجهه السمح وملامحه الطفولية التي لم تستطع لحيته الصغيرة أو الكحل أن تخفيها، بجانبه رجل أربعيني مقطب الجبين قال للسائق: السلام عليكم ياشيخ مين النسوان يلي معك؟
السائق: آنسات من إدلب رايحين ع المدرسة
الرجل: قول للآنسات يلي معك ألغوا المكياج (التبرّج)، اللبس الضيق والجاكيت القصير ممنوع. الكل لازم يلتزم بالمانطو أوالجاگيت لتحت الركبة، ويلي مابتلتزم منرجعهاع بيتها. هالشي حرام انتوعرضنا.
كان الشاب الذي اعتدنا رؤيته يهزراسه موافقا.
السائق: أمرك.
نظرالسائق إلينا عبرمرآته وهويضحك مستهزءًا ويقول: سمعاني يا فلانة ويا فلانة بكرا بيجلدوكن.
أثّرت في نفسي لهجة ذلك الرجل وأوامره لنا بدل النصيحة. أكملنا الطريق مع بعض التعليقات الساخرة والناقدة. عند عودتنا من المدرسة كانت الجدران في منطقة الحاجزالذي أوقفنا صباحاً قد دهنت، وكتبت عليها عبارات عن اللباس الشرعي والتبرّج، تفتقد لآية كريمة أوحديث شريف. كتبوا بالخط الأحمر العريض “بمن تتشبهين؟” وتحته”بأمهات المؤمنين أم بالمغنيات والممثلات”.
في اليوم التالي، ولم نكن قد استجبنا للأوامر أنا وجميع اللواتي كنّ معي، عند حاجز الفرن وهو الأول لجهة الثوار ويتبع لاأحرار الشام، أوقفنا شاب في نهاية العشرين، ذو لحية سوداء ويضع نظارات طبية يظهر خلفها عينان عابستان، علامات الشدة والقسوة تعلو وجهه وقال للسائق: وين الهويات ومين معك.
السائق:معي آنسات ونحنا كل يوم منعدّي (نمرّ). في دلالة استغراب لطلب الهويات.
أمسك الشاب الهويات وخاطبنا وهويقلّبها: من بكرا الكل بيلبس لباس شرعي والمكياج ممنوع واذا مابتلتزموا منرجعكن.
ثم أعاد الهويات وهو يخاطب السائق: فهمهن منرجعن يالا امشي.
كانت لهجة الاستعلاء في خطابه لنا تمثّل رأي فئة واسعة منهم فينا، فنحن في نظرهم موظفون عندبشار ومؤيدون لنظامه وشبيحته وآثمون لبقائنا في إدلب وهي أرض كفرتها معظم فتاواهم. أكملنا الطريق وسط غضب ظاهر ممن كن يتبرّجن ويرفضن أن يتدخل أحد في لباسهن، وغضب باطن في داخلي من أسلوب وتفكير يفقدالثوار حاضنتهم وينفر الناس منهم.
في اليوم التالي وعلى نفس الحاجز أوقفنا الشاپ نفسه. كان معنا مدرّستان تضعان مكياجاً واضحاً. قال للسائق: أنا مو قلتلكن مبارح رح رجعكن إذا ما بطلتو تبرّج.
رد السائق: ما معي حاطين غوا.
أجابه الشاب: لا في يعني ضروري نوجه الكلام الها بالذات …يالله لف وارجع ع إدلب مافي دوام لحتى تلتزموا.
كاد الغضب يقتلني وبدأ الدم يغلي في عروقي، قررت ألا أسكت مع انني وبوجود من معي في السيارة لا أستطيع أن أظهر ما بداخلي. إذا تكلمت لا أستطيع أن اقول له انني لست شبيحة للنظام وأنني أجاهد أيضا وانني خرجت من أجل الحرية وأخاف على ثورتي وعلى ديني من تطرف دعوة أمثاله. دارت في رأسي ملايين الأفكار في ثانية. خشيت أن أناقشه فيمتنع عني لأنني عورة، أو أن أكون في خطر تقرير يغير مجرى حياتي إن لم أدقق في الكلمات. وعندما قررت أن أناقشه وقبل ان أتفوه بكلمة أدار ظهره ومضى معلناً نهاية الأمر.
همّ السائق بالرجوع لكنني أوقفته، وأشرت بيدي لأحد عناصر الحاجز بأن ياتي إلينا. كان رجل أربعيني ذو شعرطويل وغير ملتح، يحمل سلاحه على كتفه، كان ينظر إلينا ويسمع ما جرى فأقبل علينا وفتح السيارة ونظرإلي.
قلت وأنا ابتسم بوجهه: أولا السلام عليكم.
أجابني : وعليكم السلام.
تابعت: وتانيا: ليش بدكن ترجعونا نحنا برقبتنا مسؤولية الاولاد يلي بالمدرسة قدام ربنا وانتوا هيك عم تقطعوا بنصيبهن بالعلم وهني مالهن ذنب.
أجابني وقد بدأ يرتاح للحديث ويهدأ: طيب انتو ليش في منكن متبرجات انتو رايحين تعلموا ولا تعرضوا أزياء وهدا الشي حرام يا اختي.
ردت عليه زميلتي التي كانت مثلي تماما: انتو لماعم ترجعونا عم تقطعوا رزقنا وهدا كمان حرام انا عم اسعى ع ايتام بدي ربيهم وبنتي يلي بالجامعة مين بدو يصرف عليها اذا وقف راتبي وابني المعتقل مين رح يذكرو ويبعتلومصاري.
كان رد صديقتي مؤثراً فيه فالأيتام والمعتقل هزت شعوره الداخلي أجابها بلطف: كلامك ع راسي يا امي بس انت بترضي بنتك تطلع هيك؟
ردت عليه: بنتي مرباية منيح واذا بدكن رجعوا المتبرجة بس ليش عم تقولوا للكل .
أجابها: يعني معقول يا امي نحرجها وننزلها لترجع لحالها كمان هي عرضنا ومنخاف عليها.
فجاة جاء الشاب وهوغاضب وسحب الرجل من يده الى الوراء وقال لنا: حاج تناقشوا ع المدرسة ما في روحة لفوا وارجعوا. فقلت له وقلبي يرتجف: لا مارح نرجع وبدنا نكمل .
وتجمع كل من كان على الحاجز حول الرجل والشاب اللذين راحا يتناقشان وكنا نشاهدهما مع ابتعاد الصوت عنا، وانتهى باعتراض الشاب وغضبه وابتعاده عن الحاجز، ليعود الرجل الينا قائلا: يا اخواتي رح تعدوا بس بالأول بيروح السرفيس ع جنب، والمتبرجة بتمسح عن وجهها وبعدين بتروحوا.
وبالفعل بعيدا عن الحاجز، قمن بمسح المكياج ورغم انهن ملامات بنظربعضنا، إلا أنني شعرت نيابة عنهن بالذل، لكنني كنت منشغلة أكثر بنظرات الشاب إلينا التي كانت تحمل وعيدًا وأمورًا أجهلها وأخشاها. وبالفعل سمح لنا بالمرور
فقال السائق لي ولصديقتي: مرة تاني لا بقى تحكوا معهن مو ناقصني اكل كفين منهم اويسمعوكن حكي تقيل.
لم اكترث بكلامه كثيرا فلقد اعتبرت وقتها انني ربحت جولة في حرب جولات لا اعرف ما تخفيه .
ن
في صباح اليوم التالي الخميس، ونحن على طابور حاجز النظام كنا نشاهد باصات المعلمات كلها تعود أدراجها الى إدلب. احتل الخوف والشك نفسي وعندما وصل دورنا للعبورعلى حاجز النظام فتح العسكري باب السيارة وقال: شو آنسات.
فأجابه السائق: اي والله.
فاتبع العسكري كلامه وهو يضحك مستهزءًا: معناتو رح يرجعوكن المسلحين لانو رجعوا كل سرافيس المعلمات وقال مافي تعداية لحتى تلبسوا كياس زبالة سود من راسكن لرجليكن، ع كل حال بدلوا محلاتكن يلي لابسي طويل تقعد قدام ويلي مقصرا لورا.
وبالفعل بدأ تبديل الأماكن، وكنت ألبس مانطو أقصرمن الطويل ب١٠سنتم، فقال لي العسكري:انت ليش قاعدي قدام ومو لابسة للأرض شوحابة يدبحوكي.
تسمرت الكلمات على شفتي وامتلأ قلبي قبل عيوني بالدموع. ألمثلي يقال هذا؟!
وتابعنا المسير، وصلنا إلى حاجز الفرن، وكان فيه انتشار كبير لعناصر لم نرهم من قبل، كانوا يرتدون الأسود مع سلاحهم الكامل، ومختفين وراء قناع أسود لايظهرسوى عيونهم الغاضبة مكتوب عليه “أمن المحكمة الشرعية”. كان لهذا المنظر وقع مخيف علينا، وطبعا كان ذلك الشاب ينتظرنا وسط الحاجز وقدجمع حوله عناصر أمن المحكمة الشرعية، نظر إلى سيارتنا وفي عينيه رغبة في رد اعتباره، وحسم الجولة بدون نقاش. وقال للسائق وقد تجمع عناصرملثمون حول السيارة: ما التزموا باللباس الشرعي يالله لف وارجع ع ادلب مدرسة ما في لحتى تعرفوا ان الله حق.
ضغطت صديقتي على يدي في إشارة منها كي لا اناقشهم وبالفعل لم تتفوه أي منا بكلمة. بدأ السائق بالالتفاف للعودة وذلك الشاب ينظر الينا نظرة المنتصر في معركة غيرمتكافئة. كانت نظرته تقتلني ببطء، انا التي لم اخف يوما من أمن النظام عندما كنت اهتف للحرية في شوارع مدينتي واحلق بها. من أين جاء ليقص لي اجنحتي ويسرق كلماتي، وبأي حق يعيدنا لزمن الخوف.
جاهدة كنت أحاول أن أحبس دموعي عمّن حولي وبعد دقائق عدنا إلى حاجز النظام، وعندما رآنا العناصر، استدعوا الضابط المسؤول، فتح العسكري باب السيارة وهويضحك شامتا ويقول: شو انسات رجعوكن ههههه ما قلتلكن رح ترجعوا.
جاء الضابط الذي استغل الموقف وقال لنا: شو صار معكن؟
فجاوبته بعض الانسات المؤيدات للنظام وأخبرنه بماجرى فقال: معلش آنسات انتوا تاج ع روؤسنا، ماتخافوا نحنا موجودين وهدول الكلاب مو منشان اللباس بس هيك عم يعملوا هنن بقر وما بدهن علم هن سواد والعلم نور انتوا هدوا واعتبروا اليوم عطلة روحوا انبسطوا وارتاحوا.
كانت كلماته تحرق قلبي أحسست بأني اختنق لم تكن عيناي فقط تبكيان كان كل شئ في يبكي. لقد عرف الضابط بذكاء كيف يستغل الموقف، كيف يقوي حاضنته الشعبية، وقد ظه رواضحا في مدح زميلاتي المؤيدات له وقولهن”هيك الخلق بتحكي”.
لقداستطاع ذلك الشاب بغباء وبضربة واحدة ان يكسب النظام ومؤيديه جولة نفسية أقوى من عشرات العمليات العسكرية ضده، وأن يشعرني انا ومن مثلي بالغربة وباليتم الثوري وبالخوف ممن يفترض أن نحتمي بهم، وأن يشوه صورة ديني السمح وطريقة الدعوة الى الله.
نزلنا من السيارة انا وصديقتي في إدلب وأجهشنا بالبكاء، كنا نبكي ثورة ووطنا وشبابا…كنت ابكي واقول لها: ما لازم نسكت..هي الثورة النا..اذا سكتنا بصيروا متل النظام…نحنا مو شبيحات نحنا لما الناس كانت خايفة كنا نطلع …انا ما رح اسكت .
وهي تقول لي :هدول ما بينحكا معهن ماشفتيهن !؟والله بياخدوكي ع المحكمة الشرعية.
فاجيبها: يا ريت ياخدوني مشان احكي شو أمثالهن عم يعملوا كيف عم يشوهوا الثورة والدين هن مو احسن من الرسول عليه الصلاة والسلام وقت قلوا ربنا “ولوكنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك”. نحنا لازم نفكر شو نعمل ما بيصير نسكت.
فكرت أن أكتب تلك الآية الكريمة على “كرتونة” وأرفعها عبر النافذة عند مروري على ذلك الحاجز. ولكن خوفي من زميلاتي والتقارير أبعدت عني التفكيرفي أي تصرف أمام زميلاتي. فكرت أيضا أن أضع النقاب وأصعد في أي سيارة تسلك نفس طريقنا وأترجل عند الحاجز لأتحدث مع المسؤول عنه، واحتج على ماجرى. لكنني لم اجد من يرافقني في هذا الجنون. اخيراً أهداني عقلي إلى فكرتين ونفذتهما بالفعل، الأولى أن اكتب رسالة إلى المتحدث باسم الفصيل المسؤول عن الحاجز وهو رجل معروف وثقة عبر موقع الفيس بوك، ولأجل ذلك أنشأت حسابا وهمياً على الفيس بوك، وأرسلت له رسالة شرحت له كل ماجرى. جاء رده عليها بكلمات مختصرة معتذرا وشارحا أسباب ماجرى بجهل بعض عناصرالحواجز وبضرورة الحجاب الشرعي وشكرني فيها على غيرتي على الثورة ووعدني بانه سيعالج الامر.
اما الفكرة الثانية فقد طلبت من صديقة لي وهي أخت لقائد كتيبة في المزارع المحيطة بمدينة ادلب أن تضعه في صورة مايجري، وأن يوصل وجهة نظري إلى المحكمة الشرعية التي ارسلت عناصرها لترهبنا، وهو على اتصال بقضاتها.
لكن رده كان مخيبا لي ولاخته، فقد قال لها: شوالمشكلة إذا الزموهن باللباس الشرعي؟ بعدين رفيقتك لبسها مستر ليش زعلاني والكلام مو الها.
حتى أكثرأفراد عائلتها من الشباب انفتاحا وهو إعلامي الكتيبة أجابهاعندما اشتكت إليه: خرجهن خليهن يتعلموا الدين.
لخصت وجهت نظرهما فكراً سائداً وثورة انحرفت بوصلتها وديناً تحول من مخافة آله رحيم إلى الخوف من رفيق درب جاهل ومشروع ظالم باسم الدين.
في صباح الأحد اجتمعنا في السيارة للذهاب الى المدرسة. كانت بعض زميلاتي قد احضرن معهن النقاب وعباءات كي يرتدينها قبل الوصول الى الحاجز ومن ثم يخلعنها بعد تجاوزه متذرعات بتحاشي المشاكل مع حواجز الثوار.
رفضت هذه الفكرة بشدة وقلت لهم: انا لابسة مانطو ولبسي محتشم ومارح حط النقاب يلي هو موفرض لاني خايفة منهن انا اذا بدي حطو لازم اقتنع في وحطو ع طول وبعدين لاتنسوا اذا وصلهن الخبر انكن بس عم تحطوا ع الحاجز وبعدها بتشيلوه بيصير اسمنا منافقات والله عليم هي شو عقوبتها .
استجابت بعضهن لكلامي وأخفين النقاب، أما البعض الاخر فبقين عازمات على وضعه. وبالفعل بعد تجاوزنا حاجز النظام وضعن النقاب، وكنت أحاول أن أجهزنفسي استعداداً للأسوأ . اقتربنا من الحاجز وعيناي تبحث في الوجوه التي تغيرت معظمها، عن وجه ذلك الشاب الذي لم أجده، فأعيد الكرة مرة أخرى، حتى تأكدت من غيابه.
أوقفنا شاب مبتسم يمسك سواكا بيده ويمسك بالاخرى سلاحه سأل لسائق: من وين ياشيخ ولوين ؟
اجابه السائق: معلمات من إدلب وع ال…
ودون أن ينظرالينا قال: ميسرة ياشيخ والطلاب أمانة برقبتكم.
وضرب بيده على السيارة ضربة خفيفة بحركة شباب تعني تابعوا.
نظرت إلى صديقتي غيرمصدقة مايجري لقدصدق المسؤول (الامير) وتدارك الأمروأعاد للأمل فسحة في نفسي. لاحقا أرسلت له رسالة قلت له فيها “شكرا لانك قمت بواجبك الصحيح .لا تتركوا ثورتنا لأمثالهم كي لا تموت..حماكم الله وسدد رأيكم ورميكم”.