على الطرقات عندما يذل السوري في الأرض السورية
ثلاثون عاماً امضاها في الخدمة كضابط في الجيش العربي السوري، ولم يجد نفسه مرغماً للانصياع لأوامر عسكري برتبة مجند، طوال حياته لم يتعرض لهذا الذل إلا الآن في الخامس والعشرين من شهر آذار حين انتشر الجيش على الطرقات المؤدية الى درعا.
فالطريق الممتد من دمشق إلى درعا يمتلئ بالحواجز العسكرية، والطريق الدولي حسب التسميات المحلية أصبح عاجزاً عن خدمة عربات النقل التي تجرها الأحصنة، وطوابير السيارات المنتظرة دورها في التفتيش تقف كسولة على يمين الطريق، وبعض أصحابها من أبناء المنطقة وقفوا ساخرين من الإجراءات التي يتبعها النظام بكبح جماح محافظة تمثل 5% من الشعب السوري بواسطة بعض الحواجز.
فالطابور يمتد أمامه على مسافة كيلومتر كاملة، والسيارات تخضع للتفتيش والتمحيص، فلا العودة أصبحت ممكنة، والانتظار بات مقرف.
ضابط في الجيش العربي السوري لمدة ثلاثون عام، هو الآمر الناهي في قطعته، حتى عندما كان ضابطاً برتبة صغيرة ضرب ضابطاً أعلى منه رتبة لأنه رفع صوته بوجهه، فالكرامة بالنسبة لسكان درعا، المعروفة بسهل حوران، أهم ما يملك ابن هذه المنطقة.
الآن هو خارج الجيش منذ خمسة عشرة عام، لكن حياته لم تختلف، فيستيقظ باكراً ويقوم برياضته الصباحية، ثم يعود ليتناول فطوره ويستمع للأخبار ويستمر نهاره بكافة الأمور التي اعتادها في حياته العسكرية، عدا عن لباسه المدني الذي لم يعتاده، فمنذ نعومة أظفاره لم يرى غير اللون الكاكي على جسده.
صف السيارات يتقدم بملل شديد، والعسكري الذي يفتش يصرخ بالجميع لينزلوا من السيارة ويدقق بالهويات كما يحلو له، يسانده ثلة من العسكريين المتحفزين لأي عملية اعصاء أو معارضة من أحد المارة.
درعا التي اعتبرها الجميع مهد الثورة السورية، هبت عن بكرة أبيها في الأيام العشر الأولى من الثؤرة، بسبب إهانة رئيس الأمن السياسي لإمرأة واحدة، لتكتمل الصورة بهبة كبار السن الذين طالبوا بأولادهم بعد أن اعتقلتهم أجهزة الأمن وعذبوهم لأنهم كتبوا “إجاك الدور، يا دكتور”، لينفضوا عنهم غبار السنوات ويكسروا القيود التي كبلهم بها حزب البعث أربعون عاماً، ويقولوا “كفى”… وهذه الـ “كفى” جعلت النظام الآن يمارس عليهم أشد أنواع التعذيب، فقبل أهلها القتل للمتظاهرين والتعذيب للمعتقلين، وفرض عليهم الجوع، بعد أن قطّعوا أوصال درعا وجعلوا طرقاتها كأنها الحدود بين الدول العربية، والظن الذي دار بخلد النظام السوري أن بالخبز وحده يحيا الإنسان. ناسين أومتناسين أن الموت يعاكس الذل، ولم يكن العرب قبل الآن أذلاء.
وصلت سيارته الى ورفع هويته الشخصية ليراها العسكري، لكن العسكري اشار إليه أن ينزل ليرى صندوق السيارة، ثلاثون عاماً وهو يأمر وينهى، ثلاثون عاماً وتحت يديه المئات من العسكريين الذين يأتمرون بأمره ويسيرون على الدرب الذي رسمه، دون ان يظلم أحد أو يغبن حق أحد، وسنواته العشر الأخيرة في الخدمة أمضاها قائداً لإحدى الفرق، ولولا أنه من أبناء درعا لكان الآن قائداً للأركان أو حتى قائداً لأحد الفيالق برتبة عماد، لكن شاء القدر أن يكون من أبناء هذا السهل الممتد من شاطئ دمشق شمالاً وحتى ضفاف عمان جنوباً.
الآن عسكري برتبة مجند يأمره، فأشار له أنه ضابط سابق، وأنه بعمر جده، لكن العسكري لم يفهم أي من هذه الكلمات كل ما فهمه أنه يجب أن ينزل ويفتح صندوق السيارة، وتبع كلماته بإشارة لأحد رفاقه ليتهيأ ويتحفز لإطلاق الرصاص على هذا المعترض الجديد.
بالأمس سقط أحدهم على ذات الحاجز لأنه رفع صوته بوجه العسكري، فقط لانه رفع صوته، وتم رميه كالخرقة على طرف الطريق، والتهمة المعروفة أنه خائن، لترمى عليه بعض جرائد الحكومة المحلية المتخمة بأخبار المندسين والمتأمرين، وينساه كل من يمر من هنا. واليوم كأنه يشبه الأمس، لكن الضابط السابق رضخ بهدوء وخرج من سيارته وفتح الصندوق وقال للعسكري : “من أي قطعة أنت”. لكن جواب العسكري كان استهزاء بما قاله الضابط السابق، والذي أراد منه أن يرجع ليجلس خلف مقوده ويقف جانباً بسيارته ليفتشها العسكريين بتهمة الاشتباه.
لتتبعه إحدى سيارات الأجرة المتجهة إلى الأردن وكانت المصادفة أن بها أحد الأشخاص من مملكة أسبانيا، وطلب الهويات كما العادة، فأعطاه الأسباني جواز سفره، قلب العسكري صفحاته، وعندما عجز عن فهم ما تحتويه هذه الأوراق، طلب من الأسباني بطاقته الشخصية، لكن أحد الركاب اخبره أنه سائح ومغادر إلى الأردن، واكتفى العسكري بهز رأسه علامة الفهم.
فتش عناصر الجيش سيارة الضابط السابق بدقة حسب ما تعلموا، ثم طلبوا منه مغادرة المكان والاتجاه إلى قريته، لكن بحجة أنه نسي غرض ما، قال الضابط المنكسر أنه سيعود من حيث أتى.
وبالفعل أدار سيارته وعاد إلى دمشق حيث بيته الصغير ناسياً قريته التي تحتل مكان القلب من محافظة درعا ليقرر أن العودة إلى ما كان الأمر عليه أصبح مستحيلاً في ظل تعنّت النظام بفهم عقلية السوري الجديد.