عقل قربان… أو المُعتقَل X: الرجل الذي أُجبرَ على نسيان اسمه

إسمه: عقل قربان

في سوريا يُردد المعتقلون حكايته — معتقلو الأزمنة البعيدة، أزمنة البدايات — وقلّما يرد مع الحكاية إسم…

في سوريا يُحكى: عن الرجل الذي وُضِعَ في زنزانة انفرادية لا يستطيع الوقوف فيها مستقيماً، وأُجبر على البقاء فيها بعيداً عن الشمس والضوء والهواء، حتى سار على أطرافه الأربعة.

في سوريا يُحكى: عن الرجل الذي وُضِعَ في زنزانة انفرادية، وتعرّض للتعذيب طوال سنوات حتى فقدَ اللغة، وعقله، وانتهى به الأمر وهو يصدر أصواتاً… قد تشبه صوت ذئب البراري الوحيد…

في سوريا لا نعرف عقل قربان، ولا تفاصيل ما جرى معه.

******

إسمه: عقل قربان

يروي لي الرجل العجوز: “بعد أن وضعوني في المهاجع، وجدت الرجال تتحدث عن رجل اسمه عقل قربان، ومن تقاطعات أحاديثهم، ارتبطت الصورة بالإسم… ففي منفردتي كنت أرى من شقوق الباب الخشبي العتيق رجلاً محني الظهر، يسير ببطءٍ لا مثيل له، مستنداً إلى الحائط، ويقطع المسافة بخطواته الضيقة. كان شيئاً يُشبه الأشباح من شدّة نحولته. ابيضاض لونه كان عبارةً عن هيكلٍ عظمي يكسوه جلد، وشعر أبيض… كان يجثو حين يقترب من المغاسل التي ترتفع عن الأرض بثلاث درجات ليصعدها مستخدماً أطرافه الأربعة… ”

*****

إسمه: عقل قربان … سُجّل في السجن تحت اسم: X

يُذكر أنه كان ضابطاً في الجيش السوري، برتبة مٌقدّم. تعود أصوله إلى مسيحييّ منطقة قطنا في ريف دمشق. في أواخر عام 1969 وبدايات عام 1970، كان عقل في لبنان واطلّع على معلومات بشأن تحرّكات لمجموعة من حزب البعث العراقي فأطلع قيادته العسكرية على هذه المعلومات. القيادة طلبت منه في المقابل التقرّب أكثر من المجموعة ومتابعة أخبارهم وإيصالها. رفض عقل قربان أن يعمل مُخبراً، وهو العسكري.

تمّ خطف عقل قربان من لبنان، وأودع في السجون السورية ولم تعترف سلطاتها بوجوده لديها. آخر ما نقله معتقلو سجن المزّة أنّ صوت الذئب في الزنزانة غاب في عام 1987، وأغلقت الزنزانة.

******

في سوريا يُحكى: أنّ عقل قربان الذي افتخر بأنّه المُقدّم عقل قربان الذي لا ينحط إلى مستوى أن يكون مُخبراً، قد تعرّض لأبشع وأقسى أنواع التعذيب والهدف كان أنّ عليه أن يُجيب عندما يُسأل عن اسمه أنّه بلا إسم.

في سوريا يُحكى: أنّ عقل قربان، المٌقدّم في الجيش السوري، قد تعرّض للتعذيب، والحبس الانفرادي في زنزانة لا يستطيع الوقوف فيها مستقيماً، واستمر تعذيبه لسنوات، حتى وصل إلى المرحلة التي فقد فيها توازنه النفسي والجسدي، وحتى إداركه لذاته غاب عنه.

في سوريا لا يُحكى عن المُقدّم عقل قربان، بل عن المعتقل عقل قربان، الرجل الذي مات ولم تسلّم جثته إلى ذويه حتى هذه اللحظة، إذ لا تزال السلطات السورية ترفض الإعتراف بوجوده لديها. إنه العسكري الذي دفع حياته ثمناً لقيم أخلاقية ترتبط بمؤسسةٍ وطنية هي الجيش السوري. إنه الرجل الذي مات ولم تسلم جثته، لكنّ اسمه لا يزال محفوراً في الذاكرة.

طلب مني الرجل العجوز أن أكتب بضع كلمات إلى عقل قربان من قصيدة طلال حيدر:

“في ناس

قالوا قتل

في ناس

قالوا مات

في ناس

قالوا فتح عتمة خياله

وفات”

هكذا سوف يبقى عقل قربان… رجلٌ، وزنزانة، وقصة إسم لم تكتب نهايتها بعد.