عدت إلى إدلب لأودعها مجدداً

أخيراً سأزور مدينتي. سأمشي في شوارعها، اتسكع في أسواقها. وفي طريق العودة، لن أنسى أن أزور جارتي وصديقتي أم محمد، لأعرض أمامها ما تسوقت فرأيها يهمني.

منذ أن سمعت بقرار السماح للسوريين بالسفر إلى سوريا بالعيد، قررت الذهاب فوراً. أمضيت يومين أحلم وأفكّر بتلك الزيارة الموعودة. استبدلت نومي بأحلام يقظة ممتعة. إنها ادلب مدينتي وحبيبتي، ملاعب طفولتي ومراتع صباي. ذكريات حياتي من دراسة وحب وزواج وإنجاب.

23 أيلول/سبتمبر 2015، هو اليوم الموعود. بعد صلاة الفجر انطلقنا باتجاه المعبر، رغم نصائح عديدة من كل حدب وصوب بأن أؤجل السفر يوماً أو يومين، ريثما تخف جموع المسافرين. رفضت النصائح وذهبت.

من بعيد لاحت لي الجموع الغفيرة المحتشدة. آلاف البشر يتزاحمون، ومازالت الساعة السادسة صباحاً. منهم من افترش الأرض، ومنهم من اتكأ على حقيبته. هذه  السيدة تحمل طفلها، وتلك تحتار برضيعها الذي يبكي جائعا لثدي أمه. كانت الصور مؤلمة جدا …

توقعنا أن يباشر موظفو المعبر التركي عملهم في الثامنة، نظراً لكثافة المسافرين الذين ازدادوا أضعافاً مضاعفة. الثامنة مرّت وتلتها التاسعة، والأعداد تتزايد والوقت بطيء والشمس حارقة والناس تنتظر. كان موظفو المعبر الأتراك، يحتسون الشاي بالداخل. يخرجون الى الساحة الداخلية، ينظرون إلينا يصورون الجموع الغفيرة، ويغيبون. قمّة الذل والاهانة، لم يهتمو لا لصغير ولا لكبير لا لمريض ولا لرضيع.

تجاوزت الساعة العاشرة وعلا بكاء الاطفال، وباتت الناس تفقد صبرها. أخيراً فتحوا الأبواب. أخذ الناس يتدافعون دون أي تنظيم. النساء تسقط أرضاً وهنّ  يحملن أطفالهن. الشباب يقفزون من على السياج. رجال الجندرما التركية (قوى الأمن) يحملون العصي ويضربون دون رحمة.

تجاوزنا الباب الخارجي بصعوبة شديدة. ما كنا ندري ما ينتظرنا في الداخل. كان علينا ختم الهويات، ويا لهول ومشقة هذه المهمة. نافذتان أو ثلاثة فقط لختم الهويات، والناس تتدافع. رأيت رضيعا يكاد يلفظ انفاسه، وحامل تصيح: “أرجوكم أريد أن اتنفس”. هذا عدا عن العجائز اللواتي كنّ يقعن أرضاً، ولا أحد يستطيع المساعدة. فالجموع مخيفة، والزحمة تتزايد.

أخيراً، وبعد عدة ساعات من الوقوف والتدافع. وبعد جهد وعناء كبيرين، استطعنا الحصول على شرف هذا الختم. استقلّينا شاحنة، لم نجرؤ على الاقتراب من الباص الذي يقل المسافرين لكثرتهم. اقتربنا من إدلب، لم أعد أذكر عدد الباصات التي استقليناها الى أن وصلنا. المهم وصلنا.

إدلب. منذ سنتين ونصف لم أرها. ومضيت أسير في شوارعها. أينما نظرت أجد أثر الدمار الذي خلفته الطائرات المجرمة مدرستي، حارتي، وبيتي. منظر مؤلم، دمار ودمار ودمار. شُلَت يمينك أيها الطيار المجرم. كم أزهقت من أرواح بريئة. وكم هدمت من بيوت. وكم حرقت من قلوب.

في اليوم الثاني استعدت قواي. بحثت عن صديقاتي، رأيت أكثر الناس قد عادت لبيوتها ولحياتها. سعدت جدا بالخدمات المتوفرة رغم كل هذا الدمار. ماء، كهرباء، نت، اتصالات داخلية. وسمعتهم يقولون أنه على زمن النظام لم يكن عندهم لا ماء ولا كهرباء. كان تأمين الخبز من أكبر همومهم الحياتية. اليوم بعد خروج النظام وشبيحته، أصبح الخبز متوفراً للجميع وبكثرة. سمعت الكثير من القصص المؤلمة. ورأيت فرحة الناس بعودتهم لبلدهم دون شبيحة، رغم تعرضهم للخطر جراء قصف الطائرات الحربية التابعة للنظام.

مع اقتراب موعد عودتي، عاهدت مدينتي العودة إليها. تمنيت أن أبقى، ولكن أين؟ فبيتي كما بيوت الكثيرين لم يعد صالحاً، لا للسكن ولا للنظر حتى.

في 15 تشرين الأول/أوكتوبر 2015، “كان الوداع ابتسامات مبللةً، بالدمع حيناً وبالتذكار أحيانا” كم هي معبرة عن واقع حالنا أغنية فيروز هذه. ومضينا. كانت أمور العودة منظمة،  فكل مسافر له رقم رحلة. وهكذا تركنا مدينتنا على أمل العودة إليها قريباً جداً.

وكان ياما كان. كان حلماً جميلاً جداً، ما كنت أتمنى ان أصحو منه أبداً. ولكن سنرجع يوماً.

بهجة معلم (22 سنة)من مدينة إدلب،كانت تشارك بالمظاهرات وتصورها وتنشرها على اليوتيوب،وتقود المظاهرات النسائية. اعتقلت مع أخيها وأبيها ليومين.تركت دراستها في العلوم السياسية ولجأت مع أهلها إلى تركيا.

بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي