عدتُ من دمشق ياسمينة سوريا
- نساء مع أطفالهم اثناء زيارة الأقارب - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"صحيح أننا نُعاني من خوفٍ كبير بسبب طيران الأسد، لكنهُ بالنسبة لي أهوَن بكثير من اقتحام الجيش والمرور على حواجزه"
كنتُ أقطنُ أنا وعائلتي في بلده قدسيا في ريف دمشق، والتي كانت أشبه بجنةٍ على الأرض… تعجُّ بالناس والحياة. كان ذلك قبل اندلاع الثورة، وكان زوجي عامل بناء في تلك الفترة.
بعد اندلاع الثورة تغيّرتْ مجريات الحياة، بعد أن بدأت المظاهرات السلمية تنتشر هنا وهناك بشكلٍ كبير. في بلدة قدسيا، كان الناس يخرجون للتظاهر خصوصاً مساء الخميس والجمعة. فقد كنّا نشاهد في نشرات الأخبار ما يحصل في درعا، وكيف أنَّ النظام يظلم الناس ويضطهدهم، لذا عمّت المظاهرات.
كنّا أنا وزوجي من المعارضين للنظام، لكن لأننا من إدلب لم نتجرأ على التعبير عن أرائنا ولا المشاركة في التظاهر، لأنَّ إدلب كانت من أوائل المحافظات التي تعلن الثورة، وبالتالي سيكون حسابنا عسيراً لو تفوّهنا بكلمة!
بدأ النظام بنشر حواجزه في دمشق وأريافها… وبقينا على هذا الحال لأكثر من سنة، نُعاني من الحواجز المحيطة ببلدة قدسيا.
في تاريخ الثالث من أيار/مايو 2012، قامَ الجيش السوري باقتحام البلدة ضمن حملة مداهمات للمنازل لتنفيذ الاعتقالات.
كنا نرى بأعيننا كيف أنَّ عناصر النظام يقومون بخلع الأبواب ويدخلون المنازل لاعتقال الشبّان الذين كانوا يشاركون بالمظاهرات السلمية.
كنتُ جالسةً مع زوجي نسمعُ أصوات إطلاق النار الكثيف، لقربه جداً من منزلنا. وفجأة، بدأ الباب يُقرَع بقوّة! فتحَ زوجي الباب وإذ بجنود النظام يدخلون كي يفتشوا المنزل، فعلى حدِّ قولهم هم يبحثون عن الإرهابيين!
كان كبيرهم يمسك بورقة مليئة بأسماء شبّان مطلوبين من بلده قدسيا بسبب تظاهرهم السلمي. فطلبَ البطاقات الشخصية الخاصة بي وبزوجي، وبعد أن دقَّقَ بها أعادها إلينا. بدأت ابنتي الصغيرة بالبكاء، فقال لها كبير الجنود: “لا نريد إخافتكم بل نريد حمايتكم من الإرهابيين”. قلتُ في نفسي: “ممن يريدون حمايتنا؟ من الإرهابيين؟ يعتبرون المتظاهرين إرهابيين؟!”
انصرفوا، وذهب زوجي من خلفهم وأقفل الباب. ثمَّ جلسَ يتنهَّد وهو يحمدُ الله أنهم لم يعتقلوه ولم يُلحقوا بنا أي أذى.
مضى النهار بشكلٍ بطيء، وما يزال صوت إطلاق النار مستمراً… وفيما كنتُ أُحضّر وجبة العشاء، انقطعت الكهرباء عن منطقه قدسيا بشكلٍ كاملٍ! كان ثوّار الغوطة قد ردّوا على حملة الاعتقالات التي نفّذها الجيش باشتباكات دارَت بينَ الطرفين.
مضتْ ليلة مخيفة لم أستطع النوم فيها، فبقينا مُستيقظين حتّى ساعات الصباح الأولى. في اليوم التالي، كانت الأوضاع قد هدأت بين الطرفين، لكنّ الكهرباء ما تزال مقطوعة!
قلتُ لزوجي أني أُريدُ العوده إلى قريتنا، فهنا الوضع لم يعد يُحتمَل! لكنّ زوجي ردَّ بالقول: “لا أملك عملاً في القرية، فكيف سنعيش؟” سكتُّ لأنهُ مُحق، لكني أصريتُ على فكرتي بالخروج من قدسيا، وقلتُ له: “فلتبحث عن منزل خارج قدسيا، فأنا لم أعد أحتمل كل هذا الخوف!”
وفعلاً، قرَّرَ زوجي الذهاب إلى ضاحيه قدسا وهي منطقة تابعة لقدسيا… وهناكَ صارَ يبحث عن منزلٍ للإيجار.
المنازل كثيرة، لكنَّ الإيجارات باهظة الثمن، فما الحل؟ وعمل زوجي في قدسيا! قرّرنا الصمود والبقاء في منزلنا، لأنهُ ليسَ باليدِ حيلة…
حلَّ المساء ومعهُ عمَّ الخوف الأكبر وخيَّمَ الظلام. ارتفعت حرارة ابنتي وكانت تبكي، فأعطيتها خافضَ حرارة لكن دون جدوى! ارتفعت حرارتها أكثر، فما الحل؟ قالَ زوجي: “هيّا بنا نأخذها إلى مشفى الأطفال في دمشق، فلا يمكنني أن أُخاطر بصحة ابنتي”.
رغم كل الظروف السيئة، خرجنا من المنزل وسط انقطاع الكهرباء والعتمة والطرقات الفارغة من المارّة…
كانت ليلة مخيفة جداً… حملَ زوجي طفلتنا الصغيرة ومشينا ومعنا ولدينا الآخرين والخوف يمتلكني…
كنّا نمشي ونلتفت خلفنا من الخوف، ولا شيء سوى أصوات الهواء والرصاص في طرقاتٍ خالية إلاّ من خطرِ الموت. تحرَّكَ شيءٌ أمامنا، فأمسكتُ بزوجي، لكن إذ بقطة تبحثُ بين القمامة عن شيء تأكلهُ… خفتُ بسبب قطّة!
أكملنا الطريق… كان زوجي يخافُ علينا أكثر من نفسه. تابعنا طريقنا حتى وصلنا إلى ضاحية قدسيا… وهناك كانت الحياة على طبيعتها، كهرباء وإنارة وأُناس في الشوارع ومحلات تجارية… كانت تتوفّر في تلك المنطقة كل شروط الحياة، لأنَّ النظام يسيطر عليها… أمّا المناطق التي كانت ضد النظام فقد كان يقطع عنها كل سبل الحياة من ماءٍ وكهرباءٍ وأمان…
ركبنا بميكرو باص يقلُّنا إلى كراجات جسر الرئيس، ثمَّ أقلينا سيارة أُجرة إلى مشفى الأطفال. في المستشفى، فحصوا طفلتي واطمأنيتُ عليها. اشترينا لها الأدوية اللازمة. لم نستطع العودة إلى المنزل في تلك الليلة، فأمضيناها في حديقة تشرين، وعند الفجر قرّرنا أنا وزجي العودة إلى قريتنا.
الحياة صعبة للغاية هنا، فكان يجب أن نرحل، اقتنعَ زوجي بهذا فعلاً… عُدنا إلى المنزل في القرية وبدأَ زوجي بالبحثِ عن عملٍ كي يؤمّن لنا قوت يومنا. في القرية، أحسستُ بالأمان… فأنا بين أهلي وأقاربي.
صحيح أننا نُعاني من خوفٍ كبير بسبب طيران الأسد، لكنهُ بالنسبة لي أهوَن بكثير من اقتحام الجيش والمرور على حواجزه… هكذا عدتُ من دمشق ياسمينة سوريا، وسأعودُ إليها بعد أن يخرج منها النظام.
أمل محمد (34 عاماً)، ربّة منزل وأُم لثلاثة أطفال. توفيَ زوجها بالقصف وهي الآن تبحث عن عملٍ لإعالة أطفالها. تقيمُ في بلدة النقير في ريف إدلب، بعدما نزحت من سهل الغاب.