عاد إلى مدينته حرّاً
حلمت طويلاً، ﻷيامٍ وليالٍ لا تعدّ أن يتحرر إبني من معتقلات النظام. إبني أحمد معتقل منذ سنة وثمانية أشهر. اعتقلته قوات الأمن الجنائي في 25 شباط/فبراير 2013، في مدينة ادلب ثم أخذوه إلى الشام إلى سجن عدرا أو سجن دمشق المركزي. المعاملة في هذا السجن أفضل بكثير من الفروع اﻷمنية، لا تعذيب فيه، يستطيع المعتقل الاتصال بأهله مرّة كل أسبوع. نستطيع إدخال الملابس ﻷولادنا وزيارتهم، ولكن في السجن من الذل ما يقصّر العمر.
وكّلت له محامياً لعله يستطيع إخراجه من السجن، لكنه على ما يبدو اكتفى بالادعاءات والكذب وأخذ النقود. كنت أزور إبني في سجنه مرة كل شهرين. وأقدّم للقاضي إخلاء السبيل، وهي عبارة عن ورقة أطلب فيها من القاضي إخلاء سبيل ولدي، وفي كل مرة كان يرفضها، إلى أن جاء ذلك اليوم المنشود في 23 آب/أغسطس 2014، وافق القاضي على اﻹخلاء مقابل كفالة مادية قدرها 25 ألف ليرة سورية. عندما ذهبت ﻹخراج إبني أخبروني أنه تحول إلى فرع الشرطة العسكرية، يريدونه للخدمة العسكرية، كانوا قد اعتقلوه قبل بلوغه سن الـ 18 عاماً. لم يكن يملك دفتر الخدمة العسكرية، حوّلوه إلى ما يسمى الشعبة الوسيطة، وهي عبارة عن مؤسسة عسكرية تهتم بشؤون العسكريين في كل المحافظات السورية بسبب حالات النزوح. هذا في الظاهر لكنها في الحقيقة تعرقل أمورهم ولا تحلّها إلا بالنقود، فعلى الرغم من كون ابني المعيل الوحيد للأسرة بعد وفاة والده، ما يعني قدرته على تأجيل الخدمة العسكرية الإلزامية، لكنهم لم يوافقوا على إخلاء سبيله. كان لا بد أن أساوم على إخراجه. كنت مستعدة ﻷدفع كل ما أملك من نقود لترى عينيه نور الشمس من جديد.
دخلت مبنى الشعبة الوسيطة برفقة أبو خالد وهو أحد المعارف الذي سيتولّى المساومة. رأيت رجلا في الخمسين من عمره يدعى عقل، كان يتكلم اللهجة الساحلية، وله شاربين كثيفين ووجهه يقطر سما. بعد المفاوضات قال عقل: حبيت ساعد ابنك ﻷنو يتيم. دفعت مبلغ مئة ألف ليرة سورية، مقابل ورقة يبين فيها أن ولدي سجين وهو مؤجل، وعليه مراجعة شعبة التجنيد خلال شهر من تاريخ إخلاء سبيله. وﻷني لا أثق بهم خفت ألايعترفوا بهذه الورقة، فكل حاجز من حواجز النظام يعامل الناس وكأنه دولة مستقلة بحد ذاتها. لهذا قررت أن أعود به مع السيارات التابعة لبلدة الفوعة التي يتمتع أهلها بامتيازات كثيرة من قبل النظام.
وصلنا حاجز القطيفة، وهو الحاجز الموجود عند مدخل مدينة دمشق ويدعى حاجز الموت، ﻷن معظم شبان مدينة إدلب اختفوا عنده.
أخذ قلبي يخفق عندما أخذ الجندي يتفحص الهويات واحدة تلو اﻷخرى. عندما قال له السائق أنه من الفوعة جمع الهويات كلها وردّها إليه وقال: الله يحميك اذهب… فرحت كثيراً وفي كل اتصال من إخوته الذين ينتظروننا بفارغ الصبر، كنت أخبرهم أني قطعت حاجز القطيفة وكأنه إنجاز عظيم. اجتزنا عدة حواجز على هذا النحو، وعند كل حاجز كنا نعيش نفس الرعب إلى أن اقترينا من حاجز أريحا اللعين، وأريحا هي مدينة صغيرة قريبة من مدينتي ادلب. شاهد الجندي هوية إبني أحمد وسأله عن دفتر العسكرية، أعطاه ولدي تلك الورقة المشكوك بأمرها. كدنا نموت رعباً، وبعد ربع ساعة من الانتظار المرير قال الجندي: الورقة نظامية. فرحنا فرحاً عظيماً، تمنّيت لو أني عرفت منذ لحظة خروجي من الشام أنني أستطيع العبور على الحواجز بهذه الورقة، لما كنا لنعيش ذلك الرعب كل الطريق.
أخيراً وصلنا إدلب، عند الساعة التاسعة ليلاً. كان أحمد متشوقاً لرؤية إخوته والأهل والأصدقاء. لم يكن يدرك أن نفوس الناس قد تغيرت، أصدقاءه صدموه بمعاملتهم له، فهو إرهابي بنظرهم. هاله رؤية “الشبيحة” بهذا العدد الكبير، هؤلاء الذين تسلحوا لصالح النظام، وكانت مهمتهم السلب والنهب واستغلال الضعفاء والسيطرة عليهم، لم يتقبل وجودهم في كل مكان.
قرر ولدي أن يعيش مرفوع الرأس، فهو لن يقبل أن يحني رأسه لمثل هؤلاء ﻷن وجوههم تذكره بالظلم الذي ذاقه في المعتقل. غادر مدينة إدلب وهو يعرف أنه لن يستطيع العودة إليها، إلّا إذا تحرّرت. لحق بالمجاهدين، بقي في المناطق المحررة يتنفس هواء الحرية، إلى أن تحررت مدينته فعاد إليها حراً كما هو أبداً.