طيفك في المدينة المهجورة
ظهر الرابع والعشرين من شهر أيار/مايو عام 2013، كان الجو لطيفاً وقتها ورائحة الياسمين تغطي المكان. ما أروع ياسمينك يا شام.
وقفت انتظر ما يقلّني إلى البيت، لاح لون أحمر من بعيد. لم انتظر حتى اقرأ ما كتب عليه، ركبت … لأبدأ رحلتي القصيرة مع القدر.
سار بنا السائق وإذا به يأخذ طريقا لم أعهده. أيقنت حينها أنني ركبت “السرفيس” الخطأ. إنه سرفيس جديدة عرطوز بحسب ما تشير اللوحة المكتوبة على جانب الزجاج.
ضحكت. قلت في نفسي لابأس سأستكشف مناطق جديدة حباً بالمغامرة. ولكن لم أكن أعلم أن هذه المناطق الجديدة ستكون هي ذاتها سبب ألمي.
فبينما كنا نسير نظرت من النافذة وإذ بمدينة أشباح على الجانب الأيسر من الطريق إنه أوتوستراد الأربعين الذي يقع تحت سلطة النظام.
ركام، دمار، أبنية سُوّيت بالأرض. تشعر بألم يختبئ في صرير الرياح التي عندما تهب تأخذ معها التراب والذكريات.
سألت الجالس بجانبي: ما اسم هذه المدينة؟
فرد مستغرباً: هاي المعضمية، ليش حضرتك أول مرة تركبي هل سرفيس؟
فغصصت وسرعان ما امتلأت عيناي بالدموع التي خبأتها عدسات نظاراتي الشمسية.
لكنني ابتسمت له وأومأت بالإيجاب.
أكملت مشاهدتي لمدينة أسميتها “حبي المؤلم”.
تدحرجت ذاكرتي لمساء الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2012.
لاحت أمامي صورة أمي وهي تشدني إلى صدرها صارخة: أحمد استشهد يا بنتي. أخوجي استشهد!
وأنا أبكي بصمت، لم استطع الصراخ. اكتفيت بدخول غرفتي وضممت وسادتي، كأنني اضم أخي وانتحب …
وبدأ الصراخ خارجا ليقطعه أحدهم: اجتو قذيفة بالمعضمية.
آه يارب السماوات والأرض أخي أصبح أشلاء!
لم أعلم حينها أأبكي أخي الذي رحل أم أبكي جسده المتناثر!
“يارب أريد ضمه ضم جسده ، تقبيل رأسه يارب مايكون أشلاء يارب” هذه الدعوات التي أذكرها من تلك اللحظات.
وبدأت أعود بالتفاصيل إلى الوراء، عندما سمعنا طرقاً على باب بيتنا، وهمّ أبي بفتح الباب مستقبلاً أمي وخالتي وبعض الأصدقاء
صرخت أمي قائلة: أحمد استشهد!
قفزت من مكاني لأصل للباب من وقع الكلام.
وإذ بدموع أبي تنهمر لأرى دموعه لأول مرة وسرعان ما نطق بـ “الحمدلله” .
قبل الحادثة بساعة كان أحمد يحضر درسه الألماني في معهد اللغات بمنطقة المزة. خرج منه ملبيا نداءه كطبيب لمشفى في معضمية الشام، كانت في شهرها الثاني من الحصار. وكان أحمد قبل ذلك بساعات صدّق أوراقه بنفسه من الخارجية. كان ينوي السفر لإكمال اختصاصه في ألمانيا. كان يأمل أن ينتهي بعبع الأسد وتنتصر الثورة قبل سفره …
حتى اليوم لم استطع زيارتك في معضمية الشام بسبب حصارها المستمر. عذرا منك أخي الشهيد.
البعبع لم يمت بعد، وابتلينا ببعبع آخر يقتلنا بنكهة أخرى.
ولكن لأجلك ولأجل الآلاف من رفاقك أقسمنا أن نبقى …
وسنبقى …