طقوس العيد السعيد في سوريا

استيقظت أنا وأمي عند الساعة الثانية والربع فجراً على أصوات جيراننا، على غير عادة أهل بلدتنا حاس.

خرجت أمي لترى ما يحدث عند بيت الجيران. صادفت أبو محمد وهو يقيم في حارتنا أيضا. سألته أمي: “ما الذي يحدث هنا لما كل هذه الأصوات؟”

أبو محمد: “يقولون بأن القرية سيتم قصفها بشدة الله يستر”.

أمي:” ولماذا ومن قال؟”

أبو محمد: “الثوار مصممون على مهاجمة الحاجز العسكري النظامي في القرية وتحريره، وأغلب أهل القرية نزحوا الى القرى المجاورة”.

ارتعبنا كثيراً، لم أدرِ ماذا أصابني. بدأت أرجف من شدة الخوف. أمي أيقظت أبي وطلبت منه الخروج من المنزل، لم يوافق على الذهاب معنا قائلاً”إن الذي يخرج من منزله تقلّ قيمته، هكذا يقول المثل”. قمنا بإيقاظ بيت عمي للنزوح معنا ومرافقتنا الطريق.

كان هذا في اليوم الخامس أو السادس عشر من شهر رمضان المبارك لعام 2012وكانت غالبية الناس يجهزون لاستقبال عيد الفطر. لم يكن يفصلنا سوى بضعة أيام عن عيد الفطر، والهالي كانوا يعدّون العدة لإحياء هذ العيد.

بدأت القذائف تتساقط على مدينة كفرنبل المتزامنة مع تبادل إطلاق النار، كانت معركة تحرير بريد الهاتف (المكان الذي اتخذه نظام الأسد مقراً ومركزاً كبيراً، تفرع عنه حاجزي حاس وبسقلا) في كفرنبل بدأت قبل يومين.

شعرنا بالخوف الشديد. عندها اقتنع أبي بالخروج من البلدة لأننا خائفين. لا أحد منا يقوى على تحمّل أصوات الانفجارات، أسرعنا إلى بيت جدي وبدأنا بتحضير السحور. ولكن لم يستطيع أحد منا تناول الطعام. شربنا الماء فقط ولا ندري ماذا نفعل. فالناس في البلدة مثل السكارى لا يدرون ماذا يفعلون، يخرجون إلى البلدة المجاورة أو يبقون في الملاجئ. عندها سمعت جدي يتمتم بينه وبين نفسه، ولم افهم منه سوى هذه الكلمات “يا آلهي بعد كل هذا العمر الذي قضيناه في هذا المنزل سوف نضطر للخروج منه، هذا هو الظلم”.

نساء تمشي في حي الفردوس. تصوير حسام كويفاتية

ماهي إلا دقائق معدودة حتى تعالت أصوات آذان الفجر من المساجد. وبعد فترة من الوقت جاء أحد الشبان وقال لنا أن نستعد للذهاب. خرجنا مسرعين وسيراً على الأقدام. لا ندري إلى أين، كان جل اهتمامنا وكل ما نفكر به هو الابتعاد عن هذه الحواجز وعن هذا القصف.

لفت انتباهي نظرات أمي المملوءة بالتوتر والحسرة. سمعتها تقول “ما هذا الزمان الذي أجبرنا على ترك منازلنا، ولا ندري ماذا سيحصل هل سيكون المنزل عامراً عند عودتنا أم سيمحى من الوجود وتمحى ذكرياتنا معه. يا رب تفرجها علينا”.

بعد أن قطعنا مسافة لابأس بها، وكان أمامنا الكثير من الناس والأقارب، نظرت إلى الخلف لأرى حشوداً أخرى من الناس الهاربين من الموت. منهم من خرج سيراً ومنهم من استقل سيارة أو دراجة نارية.

كان هناك أحد عناصر الجيش الحر الذي وكلما رأى سيارة أو دراجة نارية يقول لركابها “أطفئوا الأضواء وخذوا اليمين، لأن النظام يضرب قذائف على الأضوا،ء ويستهدف الناس بالقناصات والرشاشات”. وكان يركض من مكان إلى آخر لتفادي إصابته برصاصة غادرة. علمت لاحقاً أنه لم يكن وحده، بل كان هناك زملاء له يقومون بالمهمة نفسها على محاور أخرى.

وفي منتصف الطريق جاءت سيارة لتقلّنا. صعدنا جميعاً ثم انطلقنا. أذكر حين نظرت إلى الخلف كان منظر قافلة السيارات على مد العين والنظر، الناس جميعهم قد رحلوا تاركين خلفهم حرباً طاحنة سوف تدور رحاها في بيوتهم في قريتهم في ذكرياتهم.

وبعد ساعة من الزمن وصلنا الى كفرسجنة (قرية مجاورة تابعة ادارياً لمنطقة كفرنبل) كان الأهالي جميهم خارج منازلهم في الطرقات، يستقبلون الأطفال والنساء والرجال. ولم يبقَ منزل إلا وأقامت فيه عائلة أو أكثر من النازحين، نحن أقمنا مع أكثر من عائلة. حينها قال والدي: “لنذهب إلى المسجد، ونستقر به لنرى ماذا سيحل بنا”. فرد عليه أحد الرجال “أنا املك منزلاً خالياً، استقروا به فهو مريح لكم أكثر من المسجد، ولا سيما ان هذه أيام رمضان المبارك “.

ذهبنا إلى الدار التي تحدث عنها ذلك الرجل، بقينا هناك حتى الساعة الثالثة بعد الظهر، جاء أحد الشبان من أقربائنا الذين بقوا في قريتي ليحمل لنا الخبر السار “كل شيء بخير، بريد كفرنبل تحرّر، جنود لنظام انسحبوا من حواجز قريتي حاس وقرية بسقلا، الى معسكر الحامدية (التجمع الأكبر لجنود النظام بعد مركز كفرنبل) بعد أن ذهب أغلبهم بين قتيل وأسير.

حينها ركبنا السيارة وعدنا إلى البلدة بعد يوم مأساوي من النزوح لم يخفف من هوله سوى استقبال أهل كفرسجنة للنازحين في بيوتهم. كان الوضع هادئاً بعض الشيء عندما وصلنا إلى منزلنا في حاس رغم وجود طائرة مروحية في السماء. عدنا لنستعد لإحياء عيد الفطر المبارك في بلدتنا مع كل ما يعنيه هذا العيد من طقوس وخشوع.

 

إناس محمد (23عاماً) أم لطفلين. لم تكمل دراستها في جامعة دمشق بسبب إندلاع الحرب. تعمل كمحررة في راديو فريش.