“ضرب الجني” وسيلة لمعالجة مرضى الصرع في إدلب
An al-Ruqyah al-Shar’iyyah session performed on a young man suffering from headaches. Photo: Hazza Adnan al-Hazza
في شهر آب/ أغسطس 2015، وبينما كانت أمل (اسم مستعار)، تتناول الشاي مع أخواتها بعد خطبتها بأيام، شعرت بألم في رأسها. انتقلت أمل إلى غرفة أخرى، ثم صرختقبل أن تسقط على الأرض، فاقدة الوعي. أصابتها الرجفة التي راحت تنتقل من ناحية في جسدها إلى أخرى، والزبد يخرج من فمها. أفراد الأسرة أمسكوا بها ومنعوها من تمزيق ثيابها وإيذاء نفسها. بضعة دقائق وهدأت أمل، وظلت مستلقية على الأرض، متعبة مرهقة. نامت لنحو ساعتين، وبعد أن استيقظت عادت وكأن شيئاً لم يكن، وقالت: “ربما رأيت أفعى تطاردني أو امرأة تحمل سكيناً وتريد ذبحي”.قالت أم أمل: “ابنتي مسحورة”.
في محافظة إدلب، ذات المليون وسبعمئة ألف نسمة، هناك اعتقاد قوي بالسحر وبقدرة الجان على السيطرة على الإنسان والمكوث داخل جسده، وخاصة عندما يتعلق الأمر بشاب أو شابة مقبلين على الزواج، أو في السنين الأولى من الزواج، وكثيراً ما يلجأ الناس لعلاج تلك الحالات بـ”الرقية الشرعية” لدى المشايخ (رجال الدين الإسلامي)، رافضين اعتبار ذلك نوعاً من أنواع الصرع.
“الرقية الشرعية” تتم بقراءة آيات قرآنية أو أدعية شرعية من قبل الشيخ الراقي، مع نفثها أو نفخها على موضع الألم، أو على المريض بشكل عام. وهي محل اتفاق لدى معظم المذاهب والتيارات الإسلامية، وخاصة التيار الصوفي الذي كان سائداً في إدلب قبل الثورة، والتيار السلفي المهيمن على المحافظة هذه الأيام.
تكررت تلك الحالة مع أمل وما زالت تتكرر، كل أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، وأحياناً في الأسبوع الواحد أكثر من مرة، وهي تذهب من حين لآخر إلى الشيخ صفوان (اسم مستعار) من أجل أن يرقيها، وأحياناً يحضر الشيخ نفسه إلى بيتها من أجل ذلك. يقول الشيخ صفوان إن “ساحراً ما سخّر جنّياً ليسكن في جسد أمل بهدف فسخ خطبتها”. ويضيف: “لقد كلمت الجنّي، إنه يهودي قوي عنيد، كلما أخرجه من جسدها يعود”.
أم أمل سمعت الشيخ يكلم الجنّي، وقالت: “الشيخ قال له إن كنت مسلماً فاخرج من يدها اليمنى، وإن كنت يهودياً فاخرج من يدها اليسرى، ثم ارتعشت يدها اليسرى، ثم رشف الشيخ من الماء المقروء عليه ونفثه على يدها اليسرى، فخرج الجني، ثم تمطت ابنتي قليلاً وبدت طبيعية، لكن الجنّي عاد بعد أيام إلى جسدها”.
تحدثت أم أمل عن إحدى جلسات “الرقية” التالية واصفة إياها بـ”الطويلة، استغرقت أكثر من ساعة، ضرب الشيخ فيها ابنتي على جسدها ورأسها بخرطوم ماء، مؤكداً لنا أن هذا الضرب لا يقع على البنت وإنما على الجني، لكن الضرب أحدث آثاراً على البنت، حتى أن رأسها تورم”. أم أمل أوضحت أن نهاية تلك الجلسة كانت “بخروج الجني من فم البنت، رافقه زئير وخروج دم من حلقها. لكنه عاد بعد أيام”.
في كل الجلسات لا الشيخ، ولا أحداً من الحضور، شاهد الجني. الشيخ صفوان يقول: “لا نراه ولكن نكلمه ويكلمنا ونسمعه ويسمعنا”.
وأقسمت أم أمل أنها سمعت كلام الجني في إحدى الجلسات: “لقد نطق على لسان ابنتي بلهجة غريبة واصفاً الساحر الذي سخّره بأنه رجل أسمر طويل متزوج ولديه أربعة أطفال، وأخبرنا بأن الساحر سخّره بناء على طلب من امرأة بعينين خضراوين تحقد علينا وتربطنا بها قرابة”.
وبحسب أم أمل لا يطلب الشيخ صفوان مقابلاً مادياً لقاء العلاج، ولكن جرت العادة عل أن يدفع له الناس مبالغ صغيرة عن كل جلسة، من 500 إلى 1000 ليرة سورية (ما يعادل دولاراً واحداً أو دولارين)، وقد يأخذون له بعض الهدايا، كزيت الزيتون والعسل.
يميز الشيخ صفوان بين الشعوذة والرقية الشرعية معتبراً المشعوذين “سحرة دجالين إخوة للشياطين يأتون بطلاسم وكلام لا أصل له في الكتاب والسنة. أما أنا فلست مشعوذاً وليس لي أي علاقة مع الجن، وكل ما هنالك أنني أرقي المريض بآيات من القرآن الكريم يعرفها كل الناس، لأجبر الجني على الخروج من جسد المريض، لأن الجني يخاف من كلام الله”.
في هذه الأيام، لا يوجد في محافظة إدلب من يقدم نفسه على أنه ساحر، فمحاكم المعارضة الإسلامية المسلحة المسيطرة على هذه المحافظة تعتبر الساحر كافراً أو مرتداً وتحكم بقتله.
وإذ يمّيز الشيخ صفوان بين نوعين من الصرع: “صرع مادي يعالج لدى الأطباء، وصرع روحي يعالج بالرقية الشرعية”. يرفض طبيب الأمراض العصبية أحمد (اسم مستعار) هذا التقسيم، نافياً وجود صرع روحي، موضحاً “أن الصرع هو مرض عضوي، ينتج عن خلل في كهرباء الدماغ، ويعالج عن طريق الأدوية، ومنه ما يشفى خلال فترة قصيرة، ومنه ما يستغرق فترات طويلة يواظب المريض فيها على تناول الأدوية، وقد يدوم مدى الحياة، وفي بعض الحالات يعالج عن طريق الجراحة العصبية”.
الشيخ صفوان لا يستحسن ذلك قائلاً: “عالجت خلال عشرين عاماً مئات من حالات الصرع الروحي وشفيت، وإن لم تصدقوا فاسألوا أصحابها”. وذكر بعض الأسماء ومنهم أم علي (50 عاماً).
أم علي قالت: “بالفعل كنت أعاني من آلام في الرأس، وقرأ الشيخ على رأسي عدة مرات وشفيت. لكني لم أكن مسحورة، ولم يقل إني مسحورة”.
يرد الطبيب أحمد على ذلك بأن ما شفي على يد الشيخ “قد يكون أمراضاً نفسية. والرقى الدينية تنفع مع الأمراض النفسية”.
وعن مسألة نطق الجني على لسان المريض، الطبيب أحمد لا يصدق ذلك ويقول إنه “كلام المريض نفسه، وذلك شأن اللاوعي أو العقل الباطن والذي يستمر بالعمل وإن نام الإنسان أو فقد وعيه”.
لا توجد إحصائية لمرضى الصرع في محافظة إدلب، ولا في سوريا. وبحسب منظمة الصحة العالمية يوجد 50 مليون مصاب بالصرع في العالم، أي بنسبة سبعة في الألف. ولا يحصل نحو ثلاثة أرباع الأشخاص المصابين بالصرع الذين يعيشون في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل على العلاج اللازم.
يشخَّص الصرع لدى أطباء الداخلية العصبية، وهم في محافظة إدلب أربعة أطباء فقط. والتشخيص يتم بواسطة أجهزة التخطيط الكهربائي للدماغ وأجهزة تصوير الرنين المغناطيسي. ويوجد في هذه المحافظة جهاز واحد من كل نوع من هذين الجهازين: جهاز التخطيط الكهربائي للدماغ في مشفى باب الهوى على الحدود مع تركيا. أما جهاز الرنين المغناطيسي ففي المركز الإشعاعي بمدينة إدلب.
خطيب أمل لا يريد تركها، ولكنه ألمح إلى أنه لن يصبر إلى ما لا نهاية، وهو يتمنى من أسرتها أن يعالجوها لدى الأطباء.
لكن أم أمل تقول إنهم أخذوها إلى مدينة حماة وصوروها “ولم يكتشف الأطباء أي شيء”.
تحبس الأم دموعها وتقول: “صدقوني إنه سحر”.
هناء (30 عاماً) مريضة الصرع منذ نحو عشر سنوات، حالتها مشابهة لحالة أمل. لجأت هناء في الأشهر الأولى من إصابتها إلى المشايخ دون جدوى، ثم سافرت إلى مدينة حمص، حيث عاينها طبيب مختص واصفاً لها بعض الأدوية. وتقول هناء: “ما زلت أواظب على الحبوب التي وصفها الأطباء، قلما تأتيني النوبة، وإن أتت فتكون خفيفة. أشعر بأنني تعافيت. تزوجت منذ ثلاث سنوات ولدي طفل”.