صمتها القاتل
اعتادت أن تدخل مكتبنا بخطواتها الثابتة وابتسامتها الخجولة. لم نكن نعرف شيئاً عنها سوى اسمها. تحضر درسها حول اللغة التركية وتغادر فوراً. لم نسألها شيئاً، كنا نستلطفها فقط، كانت تتحدث بصوت منخفض.
حصل أن غابت معلمة اللغة التركية يوماً. كان البرد شديداً في الخارج، قلت لها: “ابقِ يا لمى سنحتسي قليلاً من الشاي”. أومأت برأسها فقط. عند الرشفة الأولى أطلقت تنهيدة وقالت: ما زلن هناك، توقفت عن شرب الشاي مدة طويلة، وبعد أن خرجت أقربهن إليَّ من المعتقل عدت لشربه معها فرحة بخروجها إلى الحرية .
سألناها وصمتنا قبل أن نكمل: “هل كنتِ …؟ هزت رأسها فقط. كيف استطاعوا اعتقالها وتعذيبها وإهانتها، وهي بكل هذه الوداعة؟ استرسلت بعفوية مطلقة، عفوية طفلة بكل معنى الكلمة، تتحدث بطريقة لم أسمعها من أحد!
قالت: “بعد أيام من استضافتهم لنا أصبنا بالقمِل والجرب”.
قاطعتها: “من؟”
اجابت: “أنا وأختي الصغيرة”.
سألتها: “وهل أنت كبيرة؟” كنت أخفي ابتسامة حزينة؟
ارتاحت وتابعت بعد أن اطمأنت: “لم أتحدث سابقاً مع أحد عن هذا الموضوع” في عينيها دمعة تحجرت منذ سنوات.
حاولت أن اداري دمعتي من الكلمة الأولى، لا أريد أن أجعلها تتوقف من أجلي. قلت لها: أعدك أنه مهما شاركتنا لن تخرج كلمة واحدة منا”.
ردت: “لا شيْ أخجل منه. ولكني استغربت كثيراً من فظاعة البعض، ولديهم سؤال واحد فقط ! سؤال واحد فقط! لن أجيب، واقول لم يلمسني أحد”. وتابعت “أكبر أحلامنا كانت شفة شاي فقط ولنمت بعدها”.
روت بعدها كيف بدأت القصة: “كنت وأختي ( م ، ج ) في طريقنا أنا إلى لجامعة وهي المدرسة، كتيبة من المخابرات أوقفت السيارة، قليلاً وكدت أهضم قلبي الذي سقط في معدتي، ولم أستطع أن التقط أنفاسي كان خوفي الأكبر على أختي الصغرى. وإذ بها الأقوى”.
تابعت لمى روايتها قائلة: “أختي سألت إلى أين وجهتنا؟ اجابها أحدهم: إلى الفرع بعض الأسئلة وتعدن إلى بيوتكن. أجابته: خلينا نخبر ماما الله يوفقك؟ لم يجبها أحد وتابع السائق طريقه. أدخلونا بعد أن عصبوا أعيننا إلى مكان مجهول. كنا نرتجف وكأن برد العالم سكن قلوبنا. تم تفتيشنا بطريقة دنيئة”.
ابتسامة مختلفة عن ابتسامات العالم ظهرت على مبسمها، وهي تقول: “إنه شرشبيل، هكذا قالوا لنا اسمه عندما دخلنا إلى غرفة ليس بها من شيء إلّا من وجوه متسائلة هل فتشكم شرشبيل؟ بيديه القذرتين؟”
وأضافت: “فوراً تمَّ عزل أختي عني إلى مكان آخر ليزداد قلقي. هل أكمل؟”
أجبتها: “طبعاً طبعاً” قلتها وبلهفة. كنت أريد أن أعلم ما يحدث هناك. سبق أن اعتقلوا أخي وخرج صامتاً وما زال. سمعت الكثير الكثير ولكن ليس بتلك العفوية والاسترسال.
ندمت بعدها كيف لم أوثق. ولكن الموضوع كله كان عفويا. كيف لي أن أعلم أنها ستتحدث وكيف لي أن أسجل؟ وأنا دخلت فوراً في دوامتها إلى عالم آخر، دخلت في أدق التفاصيل. كيف غابت عن الوعي من الجلسة الأولى. استيقظت لتجد رفيقاتها يلتصقن بالحائط ليكون لها حيز للاستلقاء ، كانت الدماء تنفر من أذنها والطنين في عقلها أقوى. ماذا ألمّ بأختها؟
قالت: أتعرفين أن أمي ما زالت لا تستطيع إيقاظي. فكلما أيقظتني وضعت يدي خلفي وجثوت على ركبتي وأنا أردد حاضر سيدي، حاضر سيدي! كنت أقول يا أستاذ وبعدها الله يخليك يا عمو إلى أن علمونا بمنتهى الإنسانية أن نقول يا سيدي! ههه”.
ومما قالته أيضاً: “استطعنا أن نتحايل على القمل، لقد قلبنا بناطيلنا وبلوزاتنا لتصبح الحشوة التي تكتظ بالقمل من الخارج وهكذا نقوم بالتخلص من القمل. أما الطعام آه فعلى وجهه طبقة البروتينات هكذا يقولون لنا ساخرين. الكلام البذيء لغتهم المعتادة ويهددونا دوماً بالاغتصاب”.
تذكرت وروت: “قالت إحدانا وقد استسلمت للقدر، إن كان هذا مكتوب علينا فسيكون. لكنهم لم يقتربوا منا. ليس لأنهم أشراف بل ينتظرون الحكم الوهمي، ليتفننوا وقتها كما يشاؤون. عيناي كادتا أن تخرجا من معقليهما بسبب العصابة المملؤة بالقيح ولم أستطع الرؤية مدة طويلة”
تحدثت لمى عن امرأة فقدت عقلها. عفواً لا أستطيع سرد هذا لكم ويبقى هناك الكثير من الأسرار. خرجت هي وأختها التي لم تعلم عنها شيئاً إلا ساعة الخروج بصفقة تبادل بعد مئة يوم من الجحيم. بقيت مدة طويلة لا أستطيع النوم وقصتها لا تبارح مخيلتي وأدعو لربي دوماً ألا أستيقظ ليلاً وأتذكر قصتها التي تشابه كل القصص.
عندما غادرت قلت لها أنتن أوسمة إن سمحتن لنا نتقلد بها على صدورنا، ولن ننسى .
الهام حقي (57 عاماً) من الرقة، خريجة كلية التربية. رئيسة رابطة سوريات، عضو المكتب التنفيذي لملتقى الأدباء والكتاب السوريين. عملت كمدرّسة لأكثر من عشر سنوات.