س 10 س : الإعلام
شهد العقد الأخير مع استلام رئيس الجمهورية “بشار الأسد” السلطة في سورية بداية محاولات تحرّر المجتمع السوري بكافة قطاعاته من سياج الخوف والترهيب الذي سيّجت به السلطة الشمولية البلاد عبر خمسة عقود متواصلة من حالة الطوارئ والأحكام العرفية. إلاّ أنّ انقلاب السلطة الحاكمة عبر الأجهزة الأمنيّة على تطلّعات المواطن السوري في الديمقراطية والمواطنة، والتكلفة الباهظة لهذه المحاولات الأوليّة للتحرّر بدأ يعيد الأمور إلى المربع الأول حيث الترهيب والرقابة الذاتية ربما ستعيد سورية مرة أخرى كجمهورية للصمت..
” لابُدّ من الإصلاح والتطوير في مؤسساتنا التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية بما يخدم قضايانا الوطنية والقومية، ويعزز تراثنا الأصيل، ويؤدي إلى نبذ ذهنية الانغلاق والسلبية، ومعالجة الظواهر الاجتماعية التي تؤثر سلباً على وحدة المجتمع وسلامته..”.
هذه هي الجملة الوحيدة التي وردت في خطاب القسم لرئيس الجمهورية “بشار الأسد” عند توليه مهام الرئاسة بتاريخ 1772000، والتي جاء فيها إشارة مباشرة إلى ضرورة إصلاح المؤسسات الإعلامية، وهذه الإشارة شكلت الشرارة لحمى التفاؤل التي اجتاحت المجتمع السوري بكافة شرائحه آنذاك، وعلى الأخص العاملين في قطاع الإعلام.
لم ينتبه يومها أحد إلى كلمات رئيس الجمهورية التي تمّت صياغتها بشكل دقيق، حيث أشار إلى إصلاح المؤسسات الإعلامية فقط، دون التطرّق إلى إصلاح الذهنية والبنية الفكرية التي تحكم وظيفة الإعلام في سورية، ودوره وحريته واستقلاليته. وأيضاً، لم يتم الانتباه إلى قيام رئيس الجمهورية بربط هذا النوع من الإصلاح بشرط خاص وفضفاض، ألا وهو خدمة القضايا الوطنية و القومية . . . والحفاظ على وحدة المجتمع وسلامته الخ …، وذلك دون تحديد هذه القضايا أو المصالح بشكل واضح، و دون الحديث عن الحرّيات الأساسيّة للمواطن السوري، و صيانتها، وهل هي جزء من هذه القضايا والمصالح الوطنية؟ خصوصاً في ضوء العلاقة الإشكالية بين الدولة والسلطة من جهة والمواطن السوري من جهة أخرى، والتي تأسّست خلال العقود الخمسة الأخيرة على أساس الدولة الشمولية التي تقوم على السيطرة والتحكم بجميع القطاعات والفعاليّات المُجتمعيّة من خلال الإدارات الحكومية والحزبية والأجهزة الأمنيّة في ظل حالة من التماهي بين مفهوم الدولة والحزب الحاكم التي خلقتها المادة الثامنة من الدستور المعمول به حالياً، والتي تنص على أنّ : “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد للمجتمع و الدولة في سورية” مدعومةً بجيشٍ كبيرٍ من المواد القانونية المُقيّدة للحرّيات الفردية والعامة تحت سيف حالة الطوارئ المعمول بها منذ العام 1963 وحتى يومنا هذا.
سيمفونية الإعلام السوري
هذه الذهنية التي لم يتطرّق إلى إصلاحها أيُّ من المسؤولين السوريين خلال السنوات العشر الأخيرة، ما تزال تتحكم بأوجه حياة المواطنين في سورية بشكل عام، وخصوصاً قطاع الإعلام وقد عبّر عنها وزير الإعلام السابق “أحمد اسكندر” بأفضل ما يمكن عندما أعاد تشكيل الإعلام السوري وفق المقتضيات السابقة حين خاطب مجموعةً من الصحفيين في اجتماع معهم قائلا: (أريد أن يكون الإعلام السوري كلّه مثل فرقة سيمفونية يقودها مايسترو هو وزير الإعلام، وكل عازفيها ينظرون إلى العصا التي يحملها المايسترو ويعزفون حسب حركتها). وتمّت صياغة هذا الفهم على شكل مواد قانونية في نظام وزارة الإعلام السورية، حيث نصّت المادة 3 على أن ” تكون مهمة وزارة الإعلام استخدام جميع وسائل الإعلام لتنوير الرأي العام، وترسيخ الاتجاهات القومية العربية في القطر، ودعم الصلات مع الدول العربية والدول الصديقة وفقاً لمبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي وسياسة الدولة “.
جاء التطبيق العملي لإصلاح الإعلام السوري خلال السنوات العشر السابقة ليتسم بالتطابق مع الرؤية التي قدمها رئيس الجمهورية في خطاب القسم، فشمل التغيير شكل المؤسسات الإعلاميّة فقط مع الحفاظ على ذات البنية الذهنية.
وقوانين مقيدة
وبناءً عليه تمّ إصدار القانون رقم 50 للمطبوعات في العام 2001 والذي سمح بوجود مؤسسات إعلاميّة خاصة لجهة ملكية رأس المال فقط دون أن تكون مستقلة بالمعنى المهني، ودون أن يتمتّع الصحفيّون بأي هامش جديد من الحرّية، ودون أن تتغيّر وظيفة الإعلام القائمة على أساس شرح سياسات الدولة والحزب ومواقفهما، وتعبئة الجماهير لتأيّدها، بسبب ما يحتويه هذا القانون من مواد تمنع قيام صحافة حرّة و مستقلة.
فمن التحكم المطلق بحق منح الترخيص وإلغاؤه الذي أُعطي إلى رئيس مجلس الوزراء “بناء على المصلحة العامة”، حتى دون إبداء الأسباب الموجبة، ودون إمكانية اللجوء إلى القضاء، إلى العقوبات التي تنص على غرامات مالية كبيرة تصل إلى مليون ليرة سورية وأيضاً العقوبات السالبة للحرّية والتي تصل إلى السجن ثلاث سنوات بناء على مصطلحات قانونية فضفاضة و حمّالة أوجه؛ فالمادة 51( أ ) تجرِّم نقل الأخبار غير الصحيحة و تنص على معاقبة من يفعل ذلك بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من خمسمائة ألف ليرة سورية إلى مليون ليرة سورية، ثم تقضي المادة بتوقيع الحد الأقصى من العقوبتين معاً “إذا كان النشر أو النقل قد تمّ عن سوء نيّة، أو سببّ إقلاقاً للراحة العامة، أو تعكيراً للصلات الدولية، أو نال من هيبة الدولة، أو مسّ كرامتها، أو مسّ الوحدة الوطنية، أو معنويات الجيش والقوات المسلحة، أو ألحق ضرراً بالاقتصاد الوطني وسلامة النقد”، دون أن يتضمّن القانون تعريفاً محدداً لأيِّ من الألفاظ الفضفاضة الواردة فيه.
هذا بالإضافة إلى العديد من المواد التي تضمن إفراغ هذه المؤسسات الإعلامية الخاصة من أي دور مُجتمعي يُسهم في صناعة الرأي العام، وعلى سبيل المثال : معاقبة المطبوعات التي تدعو للإصلاح الدستوري والسياسي، وجود قائمة طويلة من المواضيع المحظور نشرها، وجود نظام متكامل للرقابة، الحق المطلق لوزير الإعلام بمنع دخول المطبوعات الأجنبية إلى سوريا.
احتكار الأثير الإخباري
امتدّ هذا النمط من “الإصلاح والتحديث” إلى الإذاعة أيضاً فقد تنازلت الحكومة طوعياً عن احتكارها للأثير وسمحت بإنشاء الإذاعات الخاصة، لكنها اشترطت أن تكون هذه الإذاعات فنية وترفيهية وإعلانية حيث لا يحق لها أن تقدّم برامج سياسية أو نشرات إخبارية.
فقد صدر المرسوم التشريعي رقم 10 بتاريخ 4/2/ 2002 والذي أضاف مادة إلى القانون رقم 68 لعام 1951 استثنى من خلالها الإذاعات الخاصة و التجارية من قرار حصر حق استخدام موجات البث الهوائي (الراديو) بالجهات الحكومية والعسكرية وفق المادة 1 من القانون 68 لعام 1951 حيث أصبحت المادة 2 من القانون رقم 68 تنص على : أ. (تستثنى من هذا الحصر الإذاعات المسموعة التجارية والخاصة والتي تقتصر على برامج الموسيقى والبرامج الغنائية والإعلانات، شريطة التقيّد بأحكام المادة 8 من القانون رقم 68، ويصدر قرار الترخيص لهذه الإذاعات من رئيس مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الإعلام ) .
وبينما حظيت الإذاعات الخاصة بهذا التعديل القانوني الكريم، استخدمت الحكومة السورية سياسة الباب الدوار مع القنوات التلفزيونية، فهي من جهة لم تصدر أي تشريع قانوني يسمح بإنشائها ومن جهة أخرى سمحت لها بالعمل ضمن منطق غض النظر المعمول به في سورية من خلال تفاهمات توافقية مع أصحابها تسمح لها بالعمل من المنطقة الحرة، وعلى الرغم من قبول بعض المستثمرين الرضوخ لهذه العلاقة غير الشرعيّة، إلا أنّ شهر العسل لم يدم طويلاً، فقد تمّ وقف بث قناة “الشام” الخاصة التي يملكها المنتج التلفزيوني وعضو البرلمان السوري “محمد أكرم الجندي”، صباح يوم السبت 28/10/2006 بناءً على قرار شفهي من وزير الإعلام “محسن بلال” دون إبداء الأسباب.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ قرار إيقاف القناة جاء في نفس اليوم الذي كانت تستعد فيه لبث أول نشرة أخبار سياسية. ولم يكن الحال أفضل مع قناة “المشرق” التي استطاعت خلال زمن قياسي احتلال مساحة مهمة في خارطة الإعلام المرئي في سورية، فقد أقدمت عناصر أمنية في الساعة الواحدة والنصف من صبيحة يوم الأربعاء 29/7/2009 بإبلاغ الموظفين المتواجدين في مكتب القناة بأمر إغلاق المكتب، وطلبت منهم مغادرة المكتب على الفور، وفي اليوم التالي بدأ التحقيق مع طاقم القناة من قبل أحد الأجهزة الأمنية وتمّ إجبارهم على توقيع تعهدات بعدم العمل مع القناة نهائيا .
إعلاميون “ملتزمون” و”غير ملتزمين”
واليوم بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على كلام الوزير “اسكندر” للصحفيين،أعاد رئيس مجلس الوزراء “ناجي عطري” تقسيم الإعلاميين السوريين إلى ثلاثة فئات: ( إعلاميون ملتزمون وأوفياء لقضايا الوطن ومصلحته، وإعلاميون غير ملتزمين إلا لمصلحتهم الشخصية ويتنقلون بين القطاع العام والخاص ويكتبون بطريقة متناقضة، الأمر الذي يفرض ضرورة تخييرهم بين الانتماء إلى القطاع العام أو الخاص والانتهاء من حالة الانفصام التي يعيشونها، إضافة إلى الإعلام المعادي الذي لا يوجد أي أمل منه). و لم يشذ حزب البعث عن هذه الذهنية فقد جاء في صحيفة “البعث” الناطقة باسمه يوم 17/9/2009 وبقلم أحد كتّابها “حسن حميد” اتهاماً للمراسلين الصحفيين السوريين بأنهم: (مُخبرين لوسائل إعلام عربية و أجنبية ولا يرون سوى اللون الأسود) .
على الرغم من الصبغّة الشكلية للإصلاحات التي قامت بها السلطة السورية في العقد الأخير ولكون النتيجة الحتميّة للقوانين الجديدة التي تمّ إصدارها هي إنشاء كائن مسخ يشبه الإعلام دون أن يقوم بدوره و وظيفته كسلطة رابعة بالمعنى الحقيقي للكلمة . . فقد تمّ منح التراخيص الجديدة في أغلبها إلى طبقة من رجال الأعمال الذين تتقاطع مصالحهم أساساً مع مصالح السلطة الحاكمة، وعلى الرغم من توجه الحكومة السورية نحو اقتصاد السوق بما يتضمنه من تحرير المنافسة وإلغاء التأميم والاحتكار، إلا أنّ هذا التوجه استُثني منه الإعلام .
فقد أبقت السلطة السورية على احتكار المؤسسات الحكومية وأجهزتها التنفيذية لكافة مفاصل العملية الإعلامية مثل توزيع المطبوعات من خلال المؤسسة العامة لتوزيع المطبوعات والتي أنشأت وفق المرسوم التشريعي رقم (42 لعام 1975 ). إضافة إلى احتكار الإعلانات من خلال المؤسّسة العربية للإعلان “إعلان” المُشكّلة منذ عام 1963، واحتكار الدولة للأخبار وذلك من خلال وكالة الأنباء السورية “سانا” ومنحها فقط الحق الحصري في تغطية النشاطات الحكومية. وعندما لاحظ رئيس مجلس الوزراء : (أنّ بعض الوزارات والجهات العامة تقوم بتزويد وسائل الإعلام المختلفة من قبلها مباشرة بالأخبار المتعلقة بتغطية نشاطاتها وفعالياتها المتنوعة)، أصدر رئيس المجلس تعميماً بتاريخ 25/5/2009 يطلب فيه من وزارات الدولة والجهات العامّة حصر التعامل مع الوكالة العربية السورية للأنباء في تغطية النشاطات و الفعاليّات المتنوّعة التابعة لها. مع العلم أنه لا وجود لقانون “الحق” في الوصول إلى المعلومات في سورية.
اتحاد الصحفيين..ضد الصحفيين
وفي سياق الاحتكار ذاته لا يزال اتحاد الصحفيين – والذي يمارس أي شيء غير الدفاع عن الصحفيين وعن مهنة الصحافة في سورية – حكراً على الصحفيين العاملين في المؤسّسات الإعلاميّة الحكوميّة فقط، وفي هذا السياق أجاب السيد نائب رئيس الاتحاد “مصطفى المقداد” عند سؤاله عن هذا الموضوع: (الصحفيين العاملين في القطاع الخاص ليسوا أعضاءً في نقابة الصحفيين، وليس مطلوباً منا الدفاع عنهم في حال التسريح أو الاعتقال، ونحاول تسوية وضعهم). وهو ذات الاتحاد الذي لم يُحرّك ساكناً أمام قيام وزارة الإعلام السورية بمنع العشرات من المطبوعات الخاصّة من التوزيع في سورية بشكل غير قانوني وعن طريق أوامر شفهية إلى مؤسّسة التوزيع، ممّا أدّى إلى خسائر بملايين الليرات لأصحاب هذه المطبوعات. الأمر الذي عبّر عنه “إياد شربجي” رئيس تحرير مجلة “شبابلك” بقوله : (الصحافة المطبوعة في سورية تُحتضر والحكومة تعلّق نعوتها).
على الرغم من كلما سبق . . . فإن ذاكرة المتابع للإعلام السوري المطبوع خلال السنوات العشرة الأخيرة تحتفظ بالكثير من الشواهد على أن المشكلة لا تنبع من ضعف المهنية أو الإيمان بقيم مهنة الصحافة والاستعداد للتضحية في سبيلها وإنما بالعقلية الحكومية والقوانين الأمنية التي تحكم العمل الإعلامي في سورية حتى يومنا هذا.
سياسة القتل البطيء..
ولعل من أهم هذه الشواهد “مجلة الدومري” الاسبوعية الساخرة التي أسسها رسام الكاريكاتير “علي فرزات” وترأس تحريرها الصحفي “حكم البابا” و التي شكل نجاحها وجرأتها وأرقام توزيعها العالية على الرغم من جميع العراقيل والتحديات التي واجهتها مفاجأة غير سارة للبعض الذي عمل جاهدا على إعدامها، الأمر الذي دفع إدارة الدومري في عددها (1 + 115) الصادر بتاريخ 2872003 للاستنجاد برئيس الجمهورية في نهاية افتتاحيتها: ( ونحن على أمل بأن السيد رئيس الجمهورية سيكون معنا لأن وجودنا رهن بمشروع الإصلاح الذي طرحه والذي يضمن لأمنا سورية المنعة والازدهار ).
إلا أن الرد لم يتأخر فصدر قرار إلغاء رخصة جريدة الدومري يوم 30/7/2003 بتوقيع رئيس الوزراء الأسبق محمد مصطفى ميرو، لتكن تلك افتتاحيتها الأخيرة الأمر الذي أثار سخطا عارما لدى جميع المهتمين، و بناء عليه قررت الحكومة السورية تغيير قواعد اللعبة في تعاملها مع “الصحف المشاغبة ” فبدل إلغاء الترخيص بشكل فج و مباش، عمدت إلى إتباع سياسة الموت البطيء عبر الاستنزاف المالي من خلال منع توزيع الصحف بعد طباعتها بقرارات شفهية. الأمر الذي طال العديد من المطبوعات السورية الخاصة و منها مجلة بورصات و أسواق الاسبوعية التي اضطرت إلى التوقف عن الصدور لأكثر من سنة بعد منع توزيع ما يقارب الثلاثين عدد خلال سنتين فقط. ومجلة شبابلك الشهرية والتي اتخذت إدارتها قرارا بالتوقف عن الصدور مؤقتا احتجاجا على ممارسات وزارة الإعلام، بالإضافة إلى صحيفة الخبر الاسبوعية التي منعت لها الوزارة شفهيا توزيع قرابة الأربعين عدد. و هو ما سبق واعتبره الصحفي مازن درويش: (عمليا إنتاج نوع من الرقابة المسبقة بدون وجود أي غطاء قانوني. فقانون المطبوعات لا يتضمن هذا الإجراء، كما أن النظام الداخلي لمؤسسة توزيع المطبوعات لا ينص عليه إطلاقا ولا حتى الصيغة التعاقدية بين المؤسسة وبين أصحاب المطبوعات تتضمن ما يسمح للمؤسسة بمنع توزيع المطبوعات السورية الأمر الذي يشكل أيضا عدم احترام للدستور السوري وعدم احترام لحقوق المواطن السوري الأساسية ، حيث أن الرقابة اللاقانونية لا تشكل تقييداً لحرية التعبير والصحافة فحسب، بل أيضاً تشكل نزيفاً مالياً للمطبوعات السورية إذ تتسبب بخسائر فادحة نجحت من خلالها وزارة الإعلام في خنق أكثر من مطبوعة سورية خاصة ).
ترويض الانترنت
إحدى أهم العلامات الفارقة في المشهد الإعلامي السوري خلال العقد الأخير، جاءت كنتيجة طبيعية للتطوّر الذي تعيشه البشرية وليس كنتيجة للإصلاح المنشود، ألا وهي دخول الإعلام الالكتروني إلى المشهد مع دخول الانترنت إلى سورية. ويؤكد “المركز السوري للإعلام وحرّية التعبير” في هذا السياق من خلال دراسة أصدرها تحت عنوان “ترويض الانترنت في سورية” على أنّ: (محاولات الحكومة السورية لترويض الانترنت والسيطرة عليه تزداد بشكل مُضطّرد مع ازدياد أعداد المستخدمين، وبداية انتشار المُجتمعات الالكترونية، وتطوّر حركة التدوين، وظهور بوادر مُشجّعة لظاهرة المواطن الصحفي، فكلما ازداد انتشار الإعلام الالكتروني في سوريا وازداد تأثيره في تشكيل وعي المواطن السوري، كلما ازدادت محاولات السيطرة عليه، وتحييّد دوره الايجابي في معادلة حرّية التعبير عن الرأي).
و لعل أبرز محاولات السيطرة المطروحة حاليا تتمثل في إصدار قانون جديد يختص بالإعلام الالكتروني تحت مسمى: (قانون التواصل مع العموم بواسطة الشبكة ) مسودة هذا القانون في مضمونها و نتائجها لا تختلف عن قانون المطبوعات رقم 50 لعام 2001 سيء الصيت، الأمر الذي أثار موجة عارمة من السخط و خيبة الأمل لدى معظم العاملين في الإعلام الالكتروني حيث يصف ” نبيل صالــح ” رئيس تحرير موقع ” الجمل ” القانــون بأنه في إحدى مقالاته: ( بائس سلفاً ، ومصيره كمصير قانون الصحافة الورقية ) ويرى ” صالح ” : ( أن القانون يساهم في تقييد الصحافيين الذين يعملون داخل حدود الوطن ويطلق أيدي من هم خارج الحدود ) بينما وجه ” عبد الله عبد الوهاب ” رئيس تحرير موقع عكس السير كلماته حول مسودة القانون إلى وزيري الإعلام و الاتصالات قائلا : ( ما قدم إلينا لم يكن مشروعاً عصرياً كما أطلق عليه ، إنه مشروع يعود بالإعلام إلى العصر الحجري ) و بينما لا يزال الجدل قائم بين قائل بأن القانون تم تأجيل إصداره و آخر يؤكد إحالته إلى مجلس الشعب لإقراره ، يرى بعض الحقوقيين و منهم المحامي ” عبد الله علي ” – رغم الاتفاق مع الإعلاميين على السلبيات الكثيرة في القانون – بعض الايجابيات : ( فهي المرة الأولى التي يحدد فيها صاحب الصلاحية في حجب المواقع الالكترونية وقد حددها النص بالقضاء ووزير الإعلام، مما ينزع الصلاحية عن الجهات الأخرى التي كانت تمارس الحجب من وراء الستار ).
و إن كانت العلامة الفارقة السابقة جاءت كنتيجة حتمية للتطور( دخول الانترنت إلى سورية ) فان العلامة الأهم في المشهد الإعلامي السوري خلال العقد الأخير، جاءت كنتيجة لإيمان الصحفيين بدور الإعلام في التنمية بكافة نواحيها، على اعتبار أن الإعلام هو شريك في صناعة التنمية و حامل أساسي من حوامل التغيير و ليس فقط نتيجة له .
صحفيون قيد الاعتقال والمحاكمة
تم ترجمة هذا الفهم لدى شريحة واسعة من الصحفيين والمدونين بشكل عملي بالانخراط في القضايا العامة وبالمطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد. وكلما بدا واضحا، ازدياد قدرة الصحفيين في سورية على صناعة الرأي العام وانخراطهم في قضايا تعتبر عادة من المحظورات و فاعليتهم في إعادة إنتاج مقولات الديمقراطية والمواطنة بشكل مختلف عن الخطاب الرسمي، كلما أمعنت الأجهزة الأمنية في استخدام سياسة الاعتقال والتي طالت العديد من الصحفيين سواء كنتيجة لمطالبتهم بالإصلاح والتغيير السلمي كما حصل مع الصحفي “ميشيل كيلو” الذي اعتقل بتاريخ 146 2006 وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات على خلفية توقيعه على “إعلان بيروت – دمشق” الذي دعا الموقعون عليه حينذاك إلى علاقات أفضل بين سورية ولبنان. وقبل إطلاق سراحه، انضم إليه زميليه ” فايز سارة ” الذي اعتقل بتاريخ 312008 و حكم عليه بالسجن سنتين ونصف على خلفية مشاركته باجتماع المجلس الوطني ل “إعلان دمشق” و“علي العبد الله” الذي اعتقل لنفس السبب و بذات العقوبة بتاريخ 17122007 و بينما كان ينتظر إطلاق سراحه، أعيد اعتقاله في اليوم المقرر فيه الإفراج عنه بتاريخ 1762010 حيث أحيل إلى قاضي التحقيق العسكري بدمشق وذلك بناء على ضبط نظم بحقه في مكان توقيفه في سجن دمشق المركزي على خليفة كتابته مقالا سياسيا و إدلاءه بتصريحات صحفية حول العلاقات السورية الإيرانية أثناء اعتقاله في السجن.
و لم يسلم أيضا من الاعتقال هؤلاء الصحفيين الذين لم ينخرطوا بشكل مباشر بالتنظيمات السياسية, واعتبروا أن المرحلة التي تعيشها سورية توجب عليهم توظيف مهنتهم من أجل دعم الإصلاح ومحاربة الفساد. فقد اعتقل الصحفي “معن عاقل” بتاريخ 23112009 و لمدة ثلاثة أشهر بدون محاكمة أثناء إعداد تحقيق صحفي حول صناعة الدواء في سورية و قبل أن يتمكن من نشره ,الأمر الذي حصل أيضا مع الصحفي “مازن درويش” الذي اعتقل بتاريخ 1212008 و حكم عليه بالسجن خمسة أيام, قبل نشر تحقيق صحفي حول تجاوزات جهاز الشرطة في فض أعمال شغب حصلت في بلدة “عدرا” .
بينما حالف الحظ الصحفيين الاستقصائيين “بسام العلي” و “سهيلة إسماعيل ” اللذين تمكنا من نشر تقارير قاما بكتابتها في عامي 2005 و 2006 حول الفساد في الشركة العامة للأسمدة الأمر الذي أدى إلى إقالة مدير الشركة نتيجة الفساد الذي كشف عنه الصحفيان . و على الرغم من ذلك فإن الصحفيان “بسام العلي” و”سهيلة إسماعيل” يواجهان حالياً محاكمة عسكرية بتهمة مقاومة النظام الإشتراكي .ولم يكن الحال أفضل مع الكتاب و المدونين الذين اختاروا شبكة الانترنت فضاءً حرا للتعبير عن آرائهم فقد امتدت إليهم يد الأجهزة الأمنية الغليظة، بداية مع “حبيب صالح” الذي حكم عليه بالسجن ثلاث مرات متتالية أعوام : 2001 لمدة ثلاث سنوات ،وفي عام 2005 لمدة ثلاث سنوات وأخيراً بتاريخ 1532009 لمدة ثلاث سنوات نتيجة لمقالاته الصحفية. مرورا ب “فراس سعد” الكاتب و الشاعر الذي حكم عليه بالسجن لمدة أربعة سنوات بتاريخ 742008 وصولا إلى المدون “كريم عربجي” الذي حكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات بتاريخ 1392009 و المدون “طارق بياسي” الذي اعتقل 772007 و غيرهم الكثيرون . . .
شهد العقد الأخير مع استلام رئيس الجمهورية “بشار الأسد” السلطة في سورية بداية محاولات تحرّر المجتمع السوري بكافة قطاعاته من سياج الخوف والترهيب الذي سيّجت به السلطة الشمولية البلاد عبر خمسة عقود متواصلة من حالة الطوارئ والأحكام العرفية. إلاّ أنّ انقلاب السلطة الحاكمة عبر الأجهزة الأمنيّة على تطلّعات المواطن السوري في الديمقراطية والمواطنة، والتكلفة الباهظة لهذه المحاولات الأوليّة للتحرّر – فمن حجب مئات المواقع الالكترونية و المنع من السفر إلى الزج بالكثير من الصحفيين والمدونين وكتاب الرأي ودعاة حقوق الإنسان والسياسيين في السجون بناءً على آرائهم التي عبروا عنها بالطرق السلمية وتشديد الخناق الاقتصادي عليهم وعلى أسرهم – بدأ يعيد الأمور إلى المربع الأول حيث الترهيب والرقابة الذاتية ربما ستعيد سورية مرة أخرى كجمهورية للصمت خلف ستار حديدي من الخوف وسط “صمت الأقلام و ضجيج الرقابة” وفقا لعنوان تقرير حقوقي حول حرية الإعلام صدر العام الماضي .