سوق الحرامية: سريالية الحياة في سوريا

 مريم عبدالله *

 سوق الحرامية المشهور في دمشق والمحاذي للإدارة العامة لوزارة الداخلية، والذي اشتهر سابقاً بأنه ملاذ للفقراء ممن هم تحت خط الفقر الأدنى الذين يشترون البضائع المهترئة، ملجأ ذوي الدخل المحدود جداً لشراء الأثاث القديم والاحتياجات من هواتف محمولة وساعات وأجهزة كهربائية مستعملة… لم يعد هذا السوق سوقاً للبضائع المسروقة أو المرمية في مكبات القمامة فقط، بل تحوّل اليوم إلى مكان عجائبي يحمل في طياته حكاية سوريا التي نهبت وسرقت وحجز عليها وتم التفاوض على أرضها، تحوّل إلى مزيج عجائبي من بضائع مسروقة إلى بضائع باعها أصحابها المغادرين خارج بلدتهم أو النازحين خارج الوطن كله تحوّل الى مكان لبيع الذكريات.

الصورة سوق الحرامية كما يبدو في فيديو منذ العام 2012 - يوتيوب
الصورة سوق الحرامية كما يبدو في فيديو منذ العام 2012 – يوتيوب

هذا السوق الذي وُجد منذ خمسينات القرن الماضي في سوريا، والذي حمل اسم سوق الحرامية لاحتوائه على بعض البضائع المسروقة أو المستعملة أو المرمية في مكبات القمامة، تجد فيه اليوم مقلاةً لم تنظّف بعد من بقايا الزيت، وكرسياً عليه شخابيط طفلٍ بأقلام ملونة، وخزانةً تتساءل هل حقاً باعها أصحابها ام انّها قد سلبت أو انتزعت انتزاعاً.

في هذا السوق تتنوّع قطع الأثاث كما تتنوّع قصص السوريين، في سوريا من نهب بيته أمام عينيه ولم يستطع أن يحرّك ساكناً، من رأى أثاثه يباع ولم يكن بيده أي خيار سوى أن يشتريه ثانية. فها هو ناصر عز الثلاثيني والقادم من حي التضامن والذي يعيش حالياً في بيت أحد أقاربه يروي لـ “دماسكوس بيورو” عن رؤيته للكمبيوتر المحمول خاصته بيد أحد “الشبيحة” في سوق الحرامية والذي يورّد اليوم بضائعاً للبائعين الصغار “لقد عرفت كمبيوتري منذ أن رأته عيناي، فأنا قد وضعت عليه صورة نسي من سرقه أن يزيلها وهي صورة عليها رمز للثورة وهي حنجرة القاشوش، (ابراهيم قاشوش مطرب سوري عرف باسم منشد الثورة من مدينة حماة وجدت جثته في تموز/ يوليو 2011 مرمية في مجرى نهر العاصي وقد اقتلعت حنجرته) سألته عن السعر فقال لي لن نختلف فاشتريته بعشرة آلاف ليرة وهو يساوي مئة ألف ليرة لكن من سرقه لا يعرف القيمة الحقيقية للجهاز”.

أما عادل درويش (45 عاماً) القادم من حمص فقد تفاجأ بأثاث بيته في السوق، فكيف وصل إلى هنا إلى قلب دمشق هذا كان تساؤله الأكبر، فيقول: “من المعروف أنه يوجد في حمص سوق السنّة، وهو سوق تباع به البضائع المسروقة من أحياء السنّة في حمص، وقد نهبها الشبيحة والحرامية من أحياء أخرى، وكانت تباع البضائع في ذلك السوق على طريق الشام، أما عندما رأيت أثاث بيتي في سوق الحرامية في دمشق انتابني شعور غريب من السعادة فها هو أثاث بيتي الذي انتقيته قطعة قطعة مع زوجتي أمام عيني، وها هي ذكريات أطفالنا في هذا الأثاث وقررت أن أشتريه مهما كان الثمن، وهكذا اشتريت أثاث بيتي المسروق”.

لكن بعض البضائع ليست مسروقة وهذا ما ذكره أبو محمود أحد الباعة في السوق والذي يعرف تفاصيله منذ نشأته، كما يدعي، ويؤكد بلهجته الشاميّة بأنّ ليس كل من “صف الصواني صار حلواني” بمعنى أن هذه مهنة لها دهاليزها التي لا يعرفها ويتقنها الا من قضى عمره بالبيع والشراء بالبضائع المستعملة والمسروقة وهي سوسة ليس من السهولة الابتعاد عنها وفيها أسرار كثيرة، وقد أمضى خمسين عاماً في هذه المهنة: “نعم توجد بضائع مسروقة ومنهوبة وأشكال ألوان، لكن يوجد الكثير أيضاً من البضائع التي باعها أصحابها عندما قرروا الهجرة وترك منازلهم المهددة بالقصف أو بقذائف الهاون، هاربين بعيداً عن دائرة القتل والدمار، ومنهم من باع أثاثه ليستطيع أن يستأجر بيتاً في مكان آمن أو ليشتري طعاماً لأولاده بعد أن خسر أعماله، وهذا يوجد منه الكثير وهو صيد ثمين للمحتالين في السوق من تجار الأزمة”.

تقول سناء السيد طالبة جامعية حوالي العشرين من العمر: “لقد بكينا ونحن نبيع قطع الأثاث فلا خيار لنا غير ذلك، هذه ذكريات طفولتي، بعنا المكتبة مع الكتب التي تحويها، وخزانة الملابس والغسالة كل ذلك لمعالجة أخي ولتأمين هروبه خارج البلد لإنقاذه من الدخول بالجيش النظامي أو الحر”.

في السوق لوح خشبي، سبورة، لازالت عليه آثار طبشور لتلميذ يرسم شمساً وجبلاً وكوخاً صغيراً (الرسمة المشهورة عند الأطفال السوريين وكبارهم)، وإطارات صور لا تزال صور بعض أصحابها بداخلها لتبدو لوحة سريالية أقرب ما يفسر ما يجري في سوريا.

في سوق الذكريات، سوق الحرامية آلام الشعب السوري كلّه، منهم من نُهب ومنهم من باع أثاثه ليبحث عن سبل أخرى للعيش والهرب بعيداً، والكثير ممن باع أثاثه طلباً للقمة الخبز وجرعة من الدواء. على مقلب الباعة، منهم من بنى مقراً جديداً في السوق ينام فيه، ويتناولون القهوة والشاي، وهم يديرون عملية الشراء والبيع والبازارات للبضائع القادمة من أماكن مختلفة، يسهرون الليل حتى بزوغ الشمس، وتختلط أصواتهم بأصوات المدافع والرصاص وأصوات السيارات في شارع مليء برائحة البارود والنشادر وأوراق النعنع والزعتر لتتماهى القباحة مع الجمال، والقذارة مع نقاء الخضرة القادمة تواً من القرى المجاورة، ووجوه الأطفال التي تستميل القادمين والعابرين لأجل بضع ليرات، الباعة هم زعماء السوق، يدركون جيداً أن هنالك كنوزاً تباع بأسعار بخسة فيكشّرون عن أنيابهم مستعدين للانقضاض على أي كان يحاول محاسبتهم فهم في حماية الدولة، ينتظرون ذلك الشاري المغلوب على أمره الباحث عن بعض أثاث من الضروريات كالغسالة أو فرن الغاز أو فراش للنوم بسعر زهيد، كي يدبّر نفسه في مكان يعيش فيه إما في مركز للإيواء أو حديقة أو غرفة صغيرة في مكان أكثر أمناً بعد أن خسر كل ما يملك.

لا وصف يمكنه أن يستحضر صورة السوق الى ذهن القارئ، ولا كاميرا يمكنها أن ترصد كل ما يجري فيه، ولا لوحة سريالية يمكنها أن تلحظ الروح المتّشحة بالسواد التي تغلّف المكان من بدايته الى نهاية آخر بسطةٍ فيه.

* مريم عبد الله اسم مستعار لصحافية تعيش داخل سوريا