سمعت صوت ابنتَي بعد القصف:”ماما نحنُ هنا”!

حلب -السكري أم تبحث عن طفلتها المفودة في إحدى المجازر بين الجثث أما أحد المشافي الميدانية

حلب -السكري أم تبحث عن طفلتها المفودة في إحدى المجازر بين الجثث أما أحد المشافي الميدانية

لا يمكنني أن أنسى يوم 20 كانون الأول/ديسمبر من العام 2015… كانت الساعة الحادية عشر صباحاً. خرجت من المنزل لأشتري البن بعدما نفذ.  القهوة هي التي تُعدّل مزاجي ومزاج ابنتَي مروة وهبة، اللتين لم تعد الحياة تقدّم لهما شيئاً جميلاً بسبب الحرب.

كان منزلنا في الطابق الرابع… وكانت الطائرات الحربية تُحلّق في سماء مدينتي إدلب. النظام، يدّعي أنّ الطائرات تستهدف المسلحين، لكن الحقيقة التي نعيشها كانت عكس ذلك، فهي تستهدف المباني السكنية وأماكن التجمّعات والأسواق.

رمت الطائرة صاروخين من حمولتها المميتة على مبنى سكني قريب من الحي الذي أسكن فيه. ولم تنتهِ، فقد رمت صاروخين آخرين لتنفُذ حمولة الطائرة. الفاجعة أنّ هذين الصاروخين وقعا على المبنى الذي يقع فيه منزلي!

أعلنت طائرة الموت نهاية مهمّتها التي خرجت لتنفّذها… وانصرفت بعدما استهدفت منزلي… لم أكن بعد أعلم بسقوط الصاروخين على المنزل، وأسرعتُ لعلّني أحتمي بأحد مداخل الأبنية القريبة!

لم تستطع قدماي أن تحمل جسدي من شدة الخوف، وقلبي كاد يخرج من مكانه من هول الإنفجار والرعب. وحين اقتربتُ من مسجد الحياة الكائن في الحي،  هذا المسجد الملاصق لمنزلي… رأيتُ ما كنت أخشاه منذ سنين. لقد استهدفوا بيتي…

أيُّ وجع هذا، أعجزعن وصفه!  يا له من يوم خيّم السواد فيه على الحي بأكمله.

توقفت قدماي عن الحركة وقلبي عن الخفقان… منزلي في الطابق الرابع… تلاشى في الهواء وباتت حجارته ركاماً. أسفل البناء وأسقفه كالأوراق المطوية على بعضها. لم أتوقف عن البكاء وبدأتُ أصرخ بأعلى صوتي، لأعرف مصير ابنتي مروة وهبة، فحال البناء لا يوحي بنجاة أحد!

“يا رب ابنتَي كانتا في هذه الغرفة تنتطراني كي أجلب البنّ لنصنع القهوة… إلطفْ بهما يا رب”. قلت ذلك وأنا في الشارع، أشير نحو الغرفة التي كانتا فيها ابنتي!

حينها لم أشعر سوى بسقوطي على الأرض والتفَّ الأهالي من حولي. الجميع راحَ يهدئني ببضع كلمات…  تربَت جارتي على كتفي قائلةً: “اصبري يا أم كمال… عسى أن تكونا بخير”.

 

ما هي إلاّ دقائق معدودة حتى انتشرت فرق إنقاذ الدفاع المدني، وأسرعت لنقل المصابين من قاطني المبنى… حينها تماسكتُ قليلاً ودنوتُ من مدخل البناء، لم أجد سلالم الدرج على حالها، كيف سأصعد لأطمئن على ابنتي في الطابق الرابع؟!

سمعتُ صراخ ابنتَي مروة وهبة من أعلى تقولان: “ماما نحنُ هنا”! اطمأنيت…

حينها أسرع رجال الإنقاذ لإحضار رافعة تساعدهم على الوصول للطوابق العُليا، وما هي إلا دقائق معدودة حتى أتت الرافعة… كنتُ كلَّ الوقت أصرخ لابنتيّ، وتصرخان في المقابل… يا لها من دقائق وكأنها سنين، خفتُ أن ينزل السقف فوقهما!

أنزل المنقذون مروة وهبة… الأختان الناجيتان من قصفٍ همجي… ولأنَّ الناجي من القصف، كأنهُ مولودٌ من جديد… سجدتُ على الأرض شاكرةً الله.

ضممتُهما، وابدأنا معاً ببكاءِ الفرح، لنرى منظر منزل كان قائماً منذ دقائق، والآن لم يبق منه سوى حجارته التي تشهد على وحشية نظام فقدَ الإنسانية.

تعب سنين عمري هدموه بثوانٍ…  لكنّي حمدتُ الله على سلامة ابنتَي، أهم من كلِّ شيء.

بعد شهر، لجأت إلى تركيا عن طريق معبر باب الهوى، وكان استقراري في مدينة غازي عنتاب القريبة من الحدود السورية. علّ الفرج يحل على وطني سوريا وأعود لأبني منزلي من جديد…

آمُل بالعودة إلى وطني، وهذه المرة أعودُ بفرح كي نشعر بالأمان، لا أن تتكرّر المآساة، فالقلب ما عادَ يحملُ حزناً.

سما بيطار (41 عاماً) من إدلب، حاصلة على الشهادة الثانوية. متزوجة وأم لأربعة أبناء. عملت في جمعيات خيرية لمدة عشر سنوات.