سقطَ القناع واستشهد…
- أم تزور قبر ابنها الذي قضى بقصف الطائرات على حلب عام 2015. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
" استيقظتُ من نومي باكيةً فهاتفتهُ وقلتُ له: عُدْ إلَي.
ابتسمَ وقال: "إدعِ لي، وهل تريدين أن أرسل لكِ شيئاً؟"
قلتُ: عُدْ... أُريدك أنت"
في دير الزور، أنجبتُ ولَدي هاشم وتحديداً في 25 تشرين الأول/أكتوبر 1987. كان هاشم طفلاً فطيناً وطليقاً في الكلام. في مرة، وهو في عمر الثلاث سنوات قالَ لي عبارة أدهشَتني: “حين أكبر سأُحرّر فلسطين”! لم أنسَ هذه العبارة من طفل صغير…
حين دخل هاشم إلى المدرسة، طلبَ الأستاذ من التلاميذ تأليف جملة فقالَ هاشم: “الدنيا شاحنة وعليكَ التسلُّق” حينَ عاد إلى المنزل حدّثني عن ذلك فأضحكني وعلَّق: “نعم سأسبق رفاقي إلى الشاحنة”.
وبقيت كلماته في بالي، إلى أن كبُر وصارَ يعشق العمل في الإعلام.
نجح هاشم في البكالوريا، لكن للأسف لم يخوّله مجموعه دراسة الإعلام، فاخترتُ لهُ بنفسي دراسة الأدب الإنكليزي وبقيت الصحافة بالنسبة لهاشم حلماً يلمع في عينيه.
تخرَّجَ من الجامعة في العام 2011، أي مع بداية الثورة لكن لم يحصل على شهادته فكان عليه الذهاب إلى الجامعة لاستلام الشهادة باليد وقد كان مطلوباً لفرع الأمن!
لماذا؟ لأنهُ شاركَ بالمظاهرات مع أصدقائه في دير الزور. وقد كان مسؤولاً في بادئ الأمر عن كتابة اللافتات في المظاهرات باللغتين العربية والإنكليزية. بدأت حياة ولدي تتغيّر مع أنهُ كان يخطّط قبل الثورة للسفر إلى السعودية والعمل هناك.
أمَّا أنا فكنتُ قد عدتُ إلى مدينتي إدلب قبل بداية الثورة بسنتين وهاشم كان قد بقي مع والده في دير الزور ليكمل دراسته. وحينَ عرفنا أنهُ مطلوب لفرع الأمن في دير الزور قام زوجي بتهريبه في سيارة شحنٍ إلى إدلب.
بعد فترة من عودة هاشم إلى إدلب لم تخمد حماسته للثورة، فصارَ يشارك في المظاهرات المناهضة للنظام في إدلب أيضاً وقد شاركه أخواه معن ومحمد.
كان يكتب هتافاته ويحضّرها في المنزل ويتدرَّب عليها متناولاً مجريات الأسبوع ليقوم بإلقائها في يوم الجمعة أمام المساجد وفي ساحات إدلب… نعم صارَ متكلّماً طليقاً أمام الآلاف، وحصلَ أن حقَّقَ حلمه بالإعلام والمشاركة في الشأن العام!
صارَ إبني هاشم مشهوراً، كان يلقّبونه بالمقنَّع بسبب وضعه قناعاً على وجهه…
أذكر في إحدى المرات أنّ المثقفين في المدينة دعوا لاعتصام في ساحة الساعة. فعلمَ هاشم بالأمر وذهب ليقف معهم. لكنه لم يضع القناع كي لا يظهر أنه المقنَّع. كنوع من التمويه ورغبةً منهُ بالظهور بوجهه كما البقية…
يومها تقدَّمَ إليه أحد الشبّان وطلبَ منهُ العودة إلى الخلف باعتبار أنَّ هذا الإعتصام خاص بنخبة المثقفين! وقد استجابَ إبني الجامعي للأمر، إبني الجميل المتواضع.
أنا أُم المقنّع كذلك الثورة في دمي وكنتُ من أولى النساء المشاركات في المظاهرات في إدلب. في مرة كنتُ أقف في المظاهرة بين النساء وقد اعتلى هاشم وهو مقنّع، المنصة ليبدأ بالقاء التحية على المتظاهرين الذين هبّوا بالهتاف صوتاً واحداً. كنتُ أقف إلى جانب فتاة لا أعرفها، فقالت لي: “استمعي إلى هذا الشاب الملقّب بالمقنّع ما أجمل هتافاته” ابتسمتُ وقلتُ لها: “ربي احمه لأهله”!
في آذار 2012، دخل جيش الأسد إلى إدلب فهربتُ أنا وزوجي وأولادي إلى الريف. هنا كان قد انتهى الحراك السلمي وبدأ الحراك المسلّح .
قال لي هاشم: “أريد أن أشتري السلاح كي أُشارك في المعارك”!
رددتُ عليه: “ولِمَ السلاح؟ إبقَ في مجال الكلمة، أعرف أنَّ قلبك ضعيف وإن رأيت الدماء سيُغمى عليك!”
فقالَ لي: أُريدُ ذلك، وادعِ لي بأن يقوّي الله قلبي فغيري ليسَ أفضلَ مني”.
شاركَ إبني في معارك عدة منها معركة سلقين وحارم وأرمناز والسجن المركزي ومطار تفتناز، وكان في كل قرية يقوم بتحريرها يلقي الهتافات فيها.
لفَّ صوت إبني قرىً عديدة…
استشهدَ أخوه الكبير معن في 4 آذار/مارس 2013، أي قبل انتقال هاشم إلى الرقة بشهرٍ واحد… فقد كان يهمُّ للمشاركة في معركة تحرير الرقة.
وقفَ هاشم عندَ بابَ المنزل يودّعني وقد قبّلني من وجنتي ورأسي. كانت تلك أول وآخر مرة يقبّلني فيها من رأسي، حرارة شفتيه على جبيني إلى الآن تحرقني…
كان قد ذهب معه إبني الصغير محمد وعمره 17عاماً… لم أكن أُريدهما أن يذهبا لكن لم يسمعا لي…
بعد مرور أربعة شهور، وصلَ هاشم في رحلة التحرير إلى دير الزور مسقط رأسه، حينها رأيتُ في منامي أن هاشم قد قُتل وقد حمله أشخاص على أكتافهم وأنزلوا رأسه في ماء الذهب واحتفظوا بالرأس لأنهُ رمز الثورة. استيقظتُ من نومي باكيةً فهاتفتهُ وقلتُ له: عُدْ إلَي.
ابتسمَ وقال: “إدعِ لي، وهل تريدين أن أرسل لكِ شيئاً؟”
قلتُ: عُدْ… أُريدك أنت.
أجهشتُ بالبكاء، وما كان عليه إلا أن طلبَ منِّي الدّعاء…
في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2013 أي في ذكرى ميلاده، استُشهد… استهدفهُ الطيران السوري ورفاقه في نقطة هي مسقط ولادته في دير الزور… استشهدَ يومَ ولِد، وفي ذات المكان!
منذُ ذلك الحين أتذكّر كلماته، قبلته على جبيني، حلمه في الإعلام وعباراته وهو صغير: يُريد تحرير القدس، يُريد أن يسبق رفاقه…يا حسرتي عليك يا ولدي… كل البكاء لا يكفيني.
أم معن من مدينة إدلب، من أوائل المشاركات في الحراك السوري. فقدت عددا من أبنائها في الحرب، ونزحت خوفاً من الإعتقال، بعدما سيطر النظام على مدينتها، وعاشت في المزارع في ريف إدلب. عملت هناك مسعفة في نقطة طبية تابعة للمعارضة، وفي تحضير الطعام للمقاتلين… إلى أن سيطرت المعارضة على مدينتها، فعادت إلى منزلها.