سرقت بسكوتة فأطعمت الجميع
شارفت الساعة على الواحدة والربع، أتممت توقيع بعض الأوراق الخاصة بالمدرّسات. ورحت أبحث عن الموجّهة غادة، بقي ربع ساعة لـ”الفرصة” (الاستراحة المخصصة للتلاميذ خلال النهار التدريسي) قبل خروج الطالبات. وما هي إلّا لحظات حتى سمعت صوت طالبة تبكي، كان الصوت من قاعة الصف الخامس. ذهبت إلى هناك ووجدت الموجهة قد سبقتني. سيدرا تبكي، تمسك حقيبتها وقد ألقت محتوياتها على الأرض و تصرخ على زميلتها دانيا، “أنت اللي سرقتيها” و دانيا تبكي و تنكر، والمعلّمة تحاول تهدئتهما. أخرجتهما من قاعة الصف إلى المكان المخصص ليكون غرفة للإدارة، وهو تحت درج ذلك القبو. مدارسنا استبدلناها بأقبية خوفاً من الصواريخ.
هناك بدأت سيدرا بروايتها “آنسة بالأمس اشترى لي والدي “بسكوتة” بـ 250 ليرة، خبّأتها لآكلها اليوم. لم يرها معي سوى دانيا، وهي سرقت قلمي في السابق” … صرخت دانيا وهي تنظر إلى سيدرا بعينين خائفتين: “آنسة أقسم لكِ لست الفاعلة. يمكنك التحقق وتفتيشي”. و فعلاً قمت بالبحث بحقيبتها و لكن دون جدوى. قالت سيدرا “ماذا عن حقيبةأختها؟ اسمها تسنيم، وهي في الصف الأول. دانيا خرجت من الصف في الحصة الأولى. يمكنك سؤال المعلّمة”. ذهبت الموجهة وأحضرت تسنيم مع حقيبتها، حيث وجدنا فيها نصف البسكوتة. و هنا انهارت تسنيم، قالت وهي تبكي “أنا لا دخل لي، دانيا جاءت إلي وقالت لي انها اشترت البسكوتة و أكلت نصفها، وأعطتني نصفها. خذسها يا آنسة، ولكننا جائعات منذ الأمس لم نأكل سوى سبانخ مسلوقة”.
طلبت من تسنيم العودة إلى صفها. أخرجت سيدرا مع الموجهة، وبقيت مع دانيا أؤنبها على سرقتها وكذبها، حتى أخبرتني قصتها :
“آنسة والدي يده مشلول، ومنذ بدء الحصار لم يعد يجد عملاً، أنا جائعة ولا طعام في المنزل”. وفاضت عيناها الصغيرتان بالدموع. أجلستها وحاولت تهدئتها، أخبرتها أنّي سأحلّ المشكلة شرط أن لا تعود للسرقة. خرجت دانيا من غرفة الإدارة خجلة بفعلتها. طلبت منها أن تحضر والدتها معها في اليوم التالي، وأن تعود إلى صفها.
ناديت على سيدرا، حدثتها عن سبب سرقة دانيا، وأن الجوع هو السبب. فبكت سيدرا و قالت “لقد سامحتها لا أريد منها ثمن البسكوتة”. مسكتها من يدها و ذهبت معها إلى الصف. طلبت منها أن تسامح دانيا أمام جميع زميلاتها، فقالت سيدرا لدانيا “سامحتك”. مسكت يدها وقالت لزميلاتها: “لا أحد يزعج دانيا نحنا بالصف كلنا أخوات”. و تعانقت دانيا و سيدرا.
خرجت من الصف، ورنّ الجرس ليعلن بداية الفرصة. اجتمعت المعلّمات في غرفة الإدارة، وبدأ الحديث عن تلك المشكلة التي حدثت. بدأت المعلمات يروين قصصاً مشابهة. حالات سرقة قامت بها الطالبات، بسبب الجوع والفقر. وكل معلمة بدأت تروي قصة حدثت معها، وبدأنا نبحث عن حل. الحصار يشتد على الغوطة الشرقية، أعراض سوء التغذية بدأت تظهر على ملامح الطلاب، و تراجع المستوى الدراسي. إضافة إلى حوادث السرقة المختلفة، فاقترحنا خطة عمل لعلنا نتجاوز بها الأزمة. في كل صف تشرف المعلمة على الطالبات، وتقوم بتقسيم ما تستطيع كل طالبة إحضاره من طعام لمشاركته مع الأكثر فقراً. حتى المعلمات سيقتسمن الطعام في ما بينهن.
بعد انتهاء الفرصة أخبرت كل معلمة طالباتها بالخطة الطارئة التي سوف نتبعها. حملة الإكتفاء الذاتي التي قمنا بها، ساعدت إلى حد ما على تجاوز تلك المشكلة الكبيرة التي واجهتنا. كانت محاولة بسيطة لمسح دمعة سكنت مقلاً صغيرة تتطلع إلى حياة أفضل. سرقت دانيا بسكوتة سيدرا فأشعلت فكرة في ذلك القبو البارد فغمرته ببراءة الطفولة وشفافية الإنسانية. لا أستطيع أن أحصي عدد حالات الإغماء التي كانت تحدث بسبب الجوع في ذلك المركز التعليمي الذي كنت أديره. ولكن تعلمت درساً واحدا من سيدرا ودانيا، أننا نحن الكبار نقف عاجزين أمام عطاء هؤلاء الأطفال، الذين خرجوا من ذواتهم ليتقاسموا طعامهم مع أقرانهم. بينما نحن نفتك ببعضاً بعضاً متذرعين بحجج واهية، تسقط أمام دمعة طفل جائع أو مصاب يئن وجعه الذي اكتسبه بسبب الحرب.
كان ذلك في 21 كانون الثاني/يناير 2014، في قبو بناء داخل مدينة دوما، التي حاصرها النظام ومنع عنها الغذاء والدواء. قام بقصفها بأسلحته الثقيلة ليقتل أهلها و يجوع من بقي حياً. كل ذلك على مسمع العالم و نظره في تلك البقعة من الأرض، التي أصبحت منسية على الرغم من وجودها بجوار أقدم عاصمة في التاريخ.