ريجيم ولكن
كنت في الخامسة و العشرين من عمري، وكان وزني قد بدأ يزداد. تحت ضغط أمي وصديقاتي ذهبت إلى أخصائي تغذية وبدأت بنظام غذائي. و لكن عبثاً كانت محاولاتي بإنزال وزني، وفي هذه الأيام بدأت المظاهرات في مدينتي ضد النظام. قررت الإنخراط في العمل الثوري، ونسيت نفسي في هذه الثورة؟ تحولت اهتماماتي لدعم قضيتي. ولكن لم أنسَ بين الحين والآخراتباع تلك الحمية القاسية التي فرضتها والدتي عليّ.
عام 2013 بدأ نظام الأسد بفرض حصار على الغوطة الشرقية، ومنع إدخال الأغذية إليها. حينها ساءت الأحوال في مدينتي دوما، وشحّت المواد الغذائية في الأسواق، ونضبت مادة الطحين فتحول الناس إلى اعتماد علف الحيوانات كمادة غذائية بدلاً عن القمح. بدأ ينقص وزني، وبعد شهرين من الحصار كان قد حلّ فصل الشتاء، واشتد البرد على غير عادته. في دوما انعدمت المحروقات، من مازوت وغاز واستبدلت بالحطب، وارتفاع الأسعار الرهيب هو الحديث الشاغل لأهلها المحاصرين .لا شيء يصلح ليكون طعاما مغذياً، وصل سعر كيلو السكر لثلاثة آلاف ليرة سورية، وكيلو الأرز لما يقارب الثلاثة آلاف.
حتى مادة العلف، بلغ سعر الكيلو طحين العلف 500 ليرة سورية، إن وجد. هذه الأسعار الغير قابلة للتصديق كانت أرقاماً حقيقية في الغوطة المحاصرة. لم تكن رواية عن مدينة خرافية. كنت أعمل مديرة لمركز تعليمي، وكان راتبي 8 آلاف ليرة سورية فقط. أبي رجل كبير لا يعمل، وأختي الصغيرة حرمت من جامعتها بسبب الحصار. بدأت أختي تمارس مهنة التدريس، راتبها 7 آلاف ليرة سورية فقط. بدأت بالتواصل مع صديقاتي في الخارج لمساعدتي مادياً. كم آلمني ذلك االحال، ما عهدت نفسي أبداً أستدين من أحد، أو أطلب مساعدة من أحد. ولكن سوء الأحوال اضطرني إلى هذا الأمر. أخي المعتقل في سجون النظام، ترك لنا أمانة، طفليه الصغيرين وزوجته. زوجته حين اعتقل كانت حامل بالطفل الثاني، وضعت مولودها في ظروف قاسية. بعت كامل مصاغي الذهبي لأساعد أهلي، ولكن دون جدوى. الحصار منع كل أنواع الغذاء، باستثناء علف الحيوان من الدخول إلى الغوطة. صمت دولي مطبق على جرائم نظام الأسد، رغم الضجيج الكبير على مواقع التواصل الاجتماعي لنقل صورة الواقع المتردي الذي وصلت إليه الغوطة الشرقية. لكن لم تجد تلك الكلمات والانفعالات أذنا صاغية.
في شهر شباط/فبراير من ذلك العام أغمي عليّ في مكان عملي. \ تم إسعافي إلى النقطة الطبية المتواضعة الخدمات على كرسي متحرك. فحصني الطبيب وأخبرني أني أعاني من سوء تغذية حاد، ونقص في السكريات وهبوط سريع في الوزن. ما زلت أذكر وجهه وهو يحاول رسم ابتسامة مطمئنة على شفتيه، راح يخبرني عن عدد الحالات التي يتم إسعافها إلى النقطة يومياً، وجميعها تعاني من نفس العوارض. ولكن الجدير بالذكر أنه لم يكتب لي وصفة طبية، فهو أعلم بالحال. اكتفى بالقول : “حاولي أن تحسني من غذائك، إن أمكن”. وتمنى لي السلامة. عندما خرجت من هناك غلبتني الضحكة، لم أعرف لماذا أضحك أو ماذا أقول. صديقتي التي كانت بصحبتي هي الأخرى ابتسمت، وقالت لي “علينا أن نحسن من نوع العلف الذي نأكله”. وتبادلنا النكات حول العلف، إنه المضحك المبكي. هي تلك الإرادة والاستهزاء بالألم الذي يزيدنا قوة في مواجهة محنتنا الكبيرة.
بدأ شهر آذار/مارس، وبدأت زهرات الربيع تتفتح معه. الحصار المفروض على الغوطة لم يستطع أن يمنع الربيع من الدخول إلى المدينة. كانت رشا زميلتي قد وجهت لي دعوة لحضور زفافها، بحثت في خزانتي عن شيء أرتديه، ولكن دون جدوى، فمقاسي قد تغير كثيراً، ووزني اختلف. احترت ماذا أفعل، ذهبت إلى صديقتي صفاء، ولأول مرة في حياتي أصعد على الميزان بثقة. خوفي من مؤشر الميزان قد تلاشى بعد ذلك الشتاء القاسي. كانت المفاجأة الكبرى لي ولصفاء، توقف المؤشر عند رقم 60 ! ستون كيلو غرام فقط بلغ وزني، لقد خسرت 25 كيلوغرام في ثلاثة أشهر فقط. كان ذلك النظام الغذائي الأجدى نفعا مع أصحاب الوزن الزائد. لم اكن أنا الوحيدة، فأغلب أهل الغوطة فقدوا وزنهم، حتى عندما راجعت الطبيب، أخبرني عن حالات عديدة لمرضى سكري شفيت نوعا ما بسبب فقدان الوزن. ولم تعد بحاجة إلى تناول جرعات كبيرة من الدواء، وانتشرت النكات حول تلك الظاهرة العامة وأذكر منها قول أحدهم :”بدك مرتك تصير قطقوطة (نحيفة) ابعتها على الغوطة”. وغيرها من الطرائف والنكات عن خبز الشعير والعلف الذي رافقنا في ذاك الشتاء القاسي. بالرغم من ذلك الألم الذي زرعه الحصار في نفوس أهل الغوطة، إلا أنني أبتسم كلما تذكرت تلك الكمية الكبيرة من الوزن التي خسرتها بسبب الحصار، وكما يقول المثل ربّ ضارة نافعة.