رفقاء السلاح يقتلون بعضهم بعضاً
طفل يلعب بخشبة صنعها على شكل سلاح
الموت يقتحم المكان بأقنعة مختلفة، لم تعد تعنيه الطريقة التي يموت بها السوريون، طالما أن النتيجة واحدة، المزيد من الموت والألم.
محمد حاج عمر شاب في مقتبل عمره، كان يحلم أن يكون لديه حياة، ومستقبل يرسم له فضاءات لا حدود لها. لم يكن يتوقع أن تقف أحلامه في لحظة مواجهته مع الموت، الذي اختطف والده. هو الإبن الأكبر في عائلته أصبح المعيل الذ يقف في مواجهة حياة قاسية. كان الأب هو المسؤول عن تخفيف حدتها ووجعها
17 عاماً، كانت كفيلة بأن تجعله يدرك العبء الكبير الذي وقع على عاتقه بعد وفاة والده. أصبح المسؤول عن أمه وإخوته. كان عليه أن يغادر مقاعد دراسته ليجد عملاً يلبي احتياجات العائلة. وبسبب الظروف التي تمر بها البلاد، لم يبق من فرص عمل للعديد من الشباب ممن لا يحملون شهادة جامعية. وهو لا يجيد مصلحة يكسب العيش منها.
محمد كان تلميذاً في مدرستي، وأسرته كانت تقيم على مقربة من منزلنا. أذكره محباً، لطيف المعشر. هادئ الطباع. الحرب سرقت حلمه. كان الخيار الوحيد أمام محمد هو الالتحاق بأحد المقرات العسكرية في بلدته، ليحصل على مبلغٍ زهيدٍ يمكنه من الحياة ضمن الحد الأدنى، فموت الوالد زاد من فقر العائلة، ولم يعد أمامه بديلاً آخر.
وكغيره من الشباب في سنه، أصبح بين عشية وضحاها يحمل سلاحاً لم يكن يتخيل يوماً أن يحمله. ونسي تماماً محمد صغر سنه ومقاعد دراسته. وراح يتنقل بين الريف الحلبي في مهمات الرباط على التلة القريبة من نقاط تواجد النظام الحاكم وبين مقره العسكري الكائن في بلدة صغيرة في الريف الإدلبي.
كعادته في كل مرة يتوجه للرباط، كان يودّع أمه وإخوته، وفكرة الموت تسيطر على عقله. كثيرون قبله من الشباب قضوا بسبب غارات الطيران على مكان تواجدهم. كان يضم والدته ويقبل يدها، محاولاً أن يحتفظ بأكبر قدر ممكن من رائحتها، ونبرة صوتها وهي تدعو الله أن يحفظه ويعيده لها بالسلامة.
توجه مع اثنين من أبناء قريته بنفس عمره تقريباً إلى الريف الحلبي، وهم يتبادلون الأحاديث عن حياتهم ومعاناتهم، وعن حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وبعد وصولهم لنقطة الرباط، كانت السماء مسرحاً للطائرات، وأصوات الغارات تشعرهم وكأن السماء تسقط على الأرض.
بعد يوم طويل من الموت والخوف، خيم الليل والهدوء على المكان. أرادوا أن يتناولوا القليل من الطعام بعد نهارهم العصيب. كان الجوع قد نال منهم، مثلما نال من قطة صغيرة، اقتربت منهم وهي تتوسل بصوتها أن تشاركهم طعامهم .
قدّم لها محمد القليل من الطعام، وهو يراقب جوعها الظاهر من طريقة سرعتها في تناوله. وبعد أن شبعت تمددت بالقرب منهم، وكأنها تشكرهم على حسن ضيافتهم .
كان الملل والخوف يسيطر عليهم، وسط هذا الليل والمساحات الخالية من الحياة حولهم، فلم يجد خليل ما يسلّيه سوى تلك القطة. بدأ يلهو بتعذيبها، وهي تحاول التملص من يديه، ولكنه أصرّ على التمسك بها والضحك من محاولاتها الفاشلة في إنقاذ نفسها.
لم يكن سلوك خليل يلقى استحسان محمد ورفيقه رحال. طلبا إليه الكفّ عن إيذاء القطة، ولكنه ما يستجب لطلبهما. احتد النقاش بينهم، وعلا صوت محمد وهو يحاول أخذ القطة من يد خليل. وهو ما أثار غضب خليل، فقام بسحب سلاحه، وأطلق النار على صديقيه. أفرغ مخزن سلاحه الرشاش في صدرهما.
هربت القطة مبتعدة عن المكان، كانت تظنه ملاذاً آمناً. أما خليل الذي بقي وحده فيما يغرق رفيقاه بدمائهما، فلم يصدق ما اقترفت يداه. رمى سلاحه جانباً، وبدأ يبكي خائفاً مما سيلاقيه في بلدته إن عاد إليها، وقد قتل رفيقيه.
روى خليل ما جرى لمسؤوله، الذي هرع إلى المكان بعد سماع إطلاق نار داخل النقطة العسكرية. سلّم خليل سلاحه واختفى عن الأنظار. البلدة كلها لم تصدق ما فعله خليل. وعندما وصل جثمان محمد وجثمان رحال تعالت الأصوات التي تدعو للقصاص وهدر دم القاتل.
رفض خليل العودة إلى البلدة، ووصله خبر من عائلتي رفيقيه، أنه سيلاقي نفس مصيرهما ولو بعد دهر. وبقيت أسرة محمد تنتظر أن يكبر أحد إخوته ليحمل مسؤولية العائلة من جديد.
غادة باكير (44 عاماً) مديرة مركز البراءة للطفولة والدعم والإرشاد النفسي، مدربة في مجال الاستعداد والحماية عضو منتدى المرأة السورية في سراقب.