رجل يخسر قدميه للإشتباه بتعاونه مع النظام

المقال التالي مبني على تحقيقات صحافية جرت في دمشق قبل عدة أشهر، إلا أنّ صعوبة الظروف الميدانية حالت دون نشرها في وقتها.

 معمرجي*

 يرتشف أبو محمود القهوة ويروي قصّته بطريقته. لا تطول أجوبته عن كلمتين أو ثلاث: الحمد لله، إن شاء الله، الله يسامحهم. دعا طفلتيه إلى مصافحتي، طالباً منهما الإبتسام للـ”أستاذ.” الكبرى ذات خمس سنوات والصغيرة عمرها سنة ونصف. العائلة كانت قد هربت من حمص إلى دمشق بعد أن تمكّن قريبها أبو شهاب من إخراج أبي محمود من الإعتقال بأعجوبة.

أبو محمود بعد بتر قدميه – حقوق نشر الصورة محفوظة للكاتب

في حمص، عندما كان الجيش الحر يسيطر على حي ما، كان يبدأ ما يسمّيه البعض “تطهير” المنطقة من المخبرين أو “العواينية،” كما يعرفون محلياً. إختُطف أبو محمود في منطقة الصفصافة في حمص في شهر نيسان/أبريل الفائت، على يد مجموعة مسلحة لم يشأ أن يسميها.

“شعرت بالإهانة عند اتهامي بأنني مخبر، لا أرضى عاراً كهذا لنفسي”، قال أبو محمود، الموظّف الحكومي القابع في أسفل الهرم الوظيفيّ والاجتماعيّ. إلا أنّ الإهانة لم تكن كل ما سيصيبه، إذ تعرض لتعذيب تسبب ببتر أصابع قدمه اليمنى ونصف قدمه اليسرى.

في العديد من الحالات، في حمص وغيرها، أخطأ حملة السلاح التقدير، فدفع بعض الأبرياء الثّمن أرواحهم، بينما تعرّض آخرون للتنكيل على يد مسلّحين يدّعون انتماءهم إلى الجيش الحرّ. تبدأ هذه الممارسات بترهيب مَن ينتمي إلى الطوائف غير المرغوب بها على حواجز رفعت علم الإستقلال في ريف إدلب وحماة وحلب، وتصل إلى الخطف والإعتداء على شباب كانوا قد شاركوا في المظاهرات أو ما زالوا يشاركون.

وقد سجلت حالات أعلن فيها متحدثون باسم الجيش الحر عن عدم ارتباط الأخير ببعض الأعمال المثيرة للجدل، فنفوا مسؤوليته عن حادثتي خطف رهائن لبنانيين كانوا متواجدين في سوريا في شهري أيار/مايو وآب/أغسطس من العام الحالي.

كان اختفاء أبي محمود قد خلق موجة من الذعر في العائلة، فاتصل أعضاؤها بقريبهم أبي شهاب ليطلبوا منه المساعدة.

لكي يساعد قريبه، حاول أبو شهاب أن يوظف علاقاته الجيدة بجميع الأطراف، التي اكتسبها بفضل العون الذي يقدمه إلى العائلات الحمصية التي نزحت إلى دمشق.

“الجميع يحبّني،” قال أبو شهاب. “لا يتمكنون من إيذائي بسبب حبّهم لي، فلا أخفي رأيي عن أحد، وقد قلت للثوار يومها أنّ ما يفعلونه حرام، ويرفضه الدين والأخلاق، بأيّ حقّ يعذبون هذا الرجل؟”

إلا أنّ التدخل لم يكن بالبساطة التي تخيلها أبو شهاب.

“لم يسهل الوصول إلى هؤلاء المسلّحين،” تابع أبو شهاب قائلاً، “لأنّ كلّ الفصائل التي أعرفها، أي معظم الفصائل العاملة على الأرض في حمص، تبرّأت منهم، ولا المشايخ استطاعوا مساعدتي ولا الأعيان. هي مجموعة لا تصغي إلى أحد ولم نعرف ما يريدون بالمقابل.”

إستمرّ المأزق، كما يقول أبو شهاب، إلى أن قام أحد قياديّي فصائل الجيش الحر بالضغط على الخاطفين و”وصل إلى التهديد بالقصاص ولأنّ الرجل بريء، سلّموه!”

طوال هذه الفترة كان أبو محمود يذوق ألواناً متعددة من التعذيب.

“كان معي في المعتقل شخص علوي وشخص مسيحي، تعاملوا مع الإثنين بطريقة أفضل من الطريقة التي تعاملوا بها معي، أعطوهما الماء والطعام وحرموني منهما معظم الوقت، لكنّنا جميعاً تعرضنا للتعذيب بدرجات متفاوتة،” قال أبو محمود.

حرارة التعذيب كانت تغطي على انخفاض درجة الحرارة داخل جدران القبو الذي تحول إلى سجن. تصاعدت حدّة التعذيب ليصل إلى الصدمات الكهربائية، إذ كان مختطفوه يوصلون إبرة سميكة إلى مصدر الكهرباء  ثم يغرزونها طوليّاً بين أصابع قدميه قبل أن يرسلوا التيار عبرها.

لم يكن أبو محمود واثقاً تماماً من المدّة التي تركت فيها حروقه الرهيبة لتتعفّن بعد التعذيب: “بعد يومين أو ثلاثة وصلهم خبر أنّني لست بمخبر وأنّ هناك من يحاول إخراجي، فتوقفوا عن التعذيب، وبعد يوم آخر أفرجوا عنّي لأجد أبا شهاب في انتظاري.”

عندما استطاع أبو محمود الخروج من حبسه أسعفه أبو شهاب إلى أحد المشافي الميدانية في حمص، حيث جرى تعقيم الجروح والحروق بداية، لكنّ المسعفين اضطروا إلى إجراء البتر في قدميه. ثمّ سافرت العائلة مع أبي شهاب إلى دمشق. عبروا عدّة حواجز، حيث فسّروا البتر بإبراز تقرير طبيّ يفيد بأنّ أبا محمود يعاني من السّكري. وفي العاصمة استطاعوا الوصول إلى مشفى متعاطف، وذلك بمساعدة أبي شهاب مرة أخرى.

“إنتزعوا قطعة من جلدي ليرمّموا بها جرح قدمي، ثمّ نقلني أبو شهاب إلى منزل مؤقّت تبرّع به أهل الخير،” قال أبو محمود واصفاً ما تمنى أن يكون آخر محطة على طريق عذابه. قبل خروجي همس لي: “سنهرب إلى الأردن قريباً، علّ رحلة الرعب تنتهي.”

*معمرجي هو الإسم القلمي لمدون سوري