ذنبي أنني خلقت أنثى

عشت مع والدي الطاعنين في السن وأطفالي، بعدما خسرت والدهم. عشنا حياة قاسية وصعبة خلال السنوات الخمس الماضية. كنت أبحث عن عمل دائم لأعتاش منه مع أطفالي بكرامة. بعيداً عن الذل والحاجة للغير. تعذبت كثيراً وكنت أعمل بشكل متقطع. وإن وجدت عملاً فهو غالباً لا يمكن أن يكفي سوى ثمن الخبز وبعض الخضار، التي كانت تباع آخر اليوم بسعر زهيد.
كثيرا ما كان والداي وأطفالي يحتاجون للدواء الذي كنت أجد صعوبة في تأمين ثمنه، فأقضي الليل وأنا أفكر كيف سأحضر ما يحتاجونه.
وأعلنت راديو فرش في مدينة كفرنبل، والتي تم تأسيسها في 15 تموز/يوليو 2013، أنها ستوظف عدداً من النساء اللواتي بحاجة للعمل، ليس بسبب الحاجة لموظفين بل رأفة بحال النساء اللواتي يعانين من صعوبات الحياة ولا سند لهن.
تم تعييني كموظفة مع 50 امرأة تقريباً بتاريخ 1 تموز/يوليو 2015، وتم بناء مركز خاص بالنساء لكي يستطعن العمل بحرية واثبات الذات دون قيود. وأنه بإمكاننا العيش بتعبنا دون الحاجة لأي شخص كان، وفعلا بدأنا العمل. كنت سعيدة جدا مع زميلاتي، أحببنا ما كنا نعمله ونقدمه من انجازات، سواء للعمل أو للعائلة التي كانت تنتظر قدوم بداية الشهر لنتقاضى الأجر وتعم السعادة والراحة بين أفرادها.
كنت وزميلاتي نصطحب أطفالنا الصغار ونحن نؤدي عملنا دون أن يفرضوا علينا شيئاً. كانوا يسألوننا باستمرار ما إذا كنا بحاجة أي شيء، حيث كانوا يوفرون لنا كل ما نحتاجه بأقصى سرعة. كان ذلك لطيفاً وكأنه حلم، أن نشعر بقيمتنا في هذا الزمن وهذا المجتمع الذي فقد أشياء كثيرة خلال هذه الحرب، وتدخل الكثير من الأطراف فيه.
إلى أن جاء هذا اليوم الصعب علي وعلى زميلاتي. بعد عودتنا إلى بيوتنا من العمل بعدة ساعات بتاريخ 14 حزيران/يونيو 2016. أخبرتنا إحدى الزميلاتي، في غرفة الدردشة على تطبيق الواتس أب التي جمعت ما بين زميلاتي في العمل، أنه تم إغلاق الراديو من قبل جبهة النصرة. في البداية ظننا أنها مزحة وأنها تحاول التلاعب بمشاعرنا. لكنها أكدت لنا ذلك الأمر. كان ذلك الخبر قاسياً على الجميع، بدأت دموعي تتساقط بكثرة والغصة تخنقني. ما عدت أستطيع التحدث. كانت إحدى صديقاتي ترسل وجوها باكية أحسست بها واحترق قلبي. كانت حياتها صعبة جداً، ولكل واحدة منا خيبة أمل. فهذه أرملة تعيش مع والديها العجوزين بعد أن تخلى عنها زوجها. وأخرى تربي أطفالها بعد أن استشهد زوجها، ولكل منا مشاكلها وهمومها.

سيدة تخرج طفلها بعيداً عن منزلها الذي تعرض للقصف في حي المرجة في مدينة حلب. تصوير صلاح الأشقر

في صباح اليوم التالي كان كل العاملين متأملين أن تتراجع جبهة النصرة عن هذا القرار، وإحساسها بما سيصيب الناس من ضرر. وانتظرنا على أمل أن يأتي السائق الذي كان يقلنا يومياً للعمل، مضت عدة ساعات ولم يأتِ أحد. قررت أنا وصديقاتي أن نجتمع في منزل إحداهن. كان اليأس قد حطّم كل آمالنا، وكانت أسوأنا حال تبكي وتبكي دون أن تلفظ ولو كلمة. والأخريات يواسين بعضهن البعض ويحاولن زرع الأمل بنفوسهن بعودتنا إلى العمل.
ساعات قليلة وامتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بهذا الأمر. تأكد خبر إغلاق راديو فرش نهائيا. كان ذلك الخبر بداية صراعات العاملين فيها مع قساوة الحياة بعد فقدانهم لعملهم.
أكثر من 200 عائله خسرت عملها في مؤسسة تم إغلاقها من قبل جبهة النصرة. بحجة أن معظم موظفيها نساء. والإسلام لا يسمح للمرأة بالعمل، بحسب ما يزعمون، فماذا تفعل امرأة مع عدة اطفال دون معيل في إسلامكم؟ وكيف تعيش وهي ترى أطفالها يموتون جوعاً؟
كثير من عائلات مدينتي كفرنبل وما يحيط بها كانت تعيش من دخل هذه المؤسسة، بعدما ضاقت سبل العيش على الكثير من الناس. لم يعد لهم أي مردود ليستمروا في العيش، فإما رجل خسر عمله أو ضرير ومعاق لا يمكنه العمل، فما له إلا أن يسمح لزوجته أو أخته بالعمل لتوفير أدنى مستوى معيشي. أو عجوز ماله سوى ابنته يمكنها العمل، أو أرملة فقدت زوجها في هذه الحرب ويتموا أطفالها، فدفنت أنوثتها كربة منزل لعدة أطفال، وخرجت تعمل كالرجال الذين هم في الإسلام قوامون على النساء لتعيل أطفالها.
ماذا تفعل أي امرأة من اللواتي خسرن عملهن لأجل أناس لا يعرفون شيئا عن الإسلام بحجة أنه غير مسموح للمرأة العمل؟ بأي دين وأي قانون وأي مذهب يتحدثون؟ لو أنهم وقفوا موقف الرجال لكانوا قدموا للنساء ما يحتجنه، لتعيل كل منهن أسرتها دون الحاجة للعمل بدلاً من رجولة سلاحهم اللعين.
بعد خسارتي للعمل بدأ اليأس والحزن يسيطران علي. أصبحت أتمنى الموت مع أبنائي في كل لحظة بأحد صواريخ الطائرات على أن لا يعيشوا بذل وحاجة للغير، وأن لا يكبروا على أخطاء الجبهة التي كانوا يرمونها على دين الإسلام “دين التسامح والمحبة”.
أنتم يا مؤسسي راديو فرش، أنتم يا من قدمتم إنسانيتكم بدعمكم لنا، شكراً لكم. شكرا لكم جميعا يا من جعلتموني أحس بالراحة قدر ما استطعتم. وجزيل الشكر لكِ يا جبهة النصرة لأنك جعلتينا نعرف حقيقتك من موقف لا يقفه الرجال.
نسرين الأحمد، (33 عاماً) من كفرنبل في ريف ادلب. أم لولدين توقفت عن دراستها الجامعية في السنة ثالثة أدب عربي بسبب الأوضاع الأمنية.