دمشق وحلب والأكراد… وصعوبات أخرى

الثورة السورية في نهاية أسبوعها الثاني (2/2):

بدأ الحراك الثوي السوري في درعا، ثم انتقل إلى مدن أخرى حيث كان صغيراً في البداية ثم سرعان ما انتشر وتوسع. في 15 آذار 2011، خرجت أولى التظاهرات في دمشق القديمة حيث اعتقل الكثير من المشاركين. في اليوم التالي، نُفذت تظاهرة النشطاء وعائلات معتقلي الرأي في سوريا أمام وزارة الداخلية والتي اعتقل فيها العشرات، مما أشّر إلى مدى الرعب الذي تعيشه السلطة وقرارها بحسم الأمور من طريق المزيد من العنف والقمع.

وابتداء من 18 آذار، بدأت التظاهرات تعم مختلف المدن والمناطق السورية، إلى أن اتخذت شكلها الأكبر في 25 آذار في ما عرف باسم “جمعة العزّة”، حينما شهدت دمشق وأريافها، واللاذقية، وحمص، وحلب، ودير الزور، والرقة، وبانياس وغيرها، تظاهرات الدعم لدرعا والحرية.

في بعض تلك التظاهرات خرج الناس بالآلاف، وفي البعض الآخر اقتصرت المشاركة على المئات، لكن الشعارات واحدة: “الله، سورية، حرية، وبس”، “سلمية سلمية”، و”حرية حرية”، ومعظم المشاركين من فئة الشباب والشابات ما بين العشرين والأربعين من العمر.

كانت التظاهرات مناطقية، بمعنى أن كل منطقة نزلت بأبنائها. فلم نشهد، مثلاً، زحفاً إلى وسط المدينة، بل إنه من الملاحظ أن ثلاثة محاور كانت ولا تزال بعيدة عن الحراك الحقيقي.

أولاً، حلب، المدينة الصناعية التي تضم سكانياً تشكيلة من عرب وأكراد، مسلمين ومسيحيين، وهي لم تشهد سوى تظاهرة صغيرة جرى قمعها بشدة. وما زال السوريون يتساءلون عن السر وراء عدم تحرك حلب الشهباء بما يليق بتاريخها الحديث. يرى البعض أن المصالح الاقتصادية لنخب المدينة هي التي تحول، حتى اللحظة، دون مشاركة فاعلة من أهلها. لكن هذا الرأي يمسي غير مقنع في ظل الواقع المتردي الذي يعانيه صناعيو المدينة، خلال السنوات القليلة الماضية، لا سيما من الطبقة الوسطى وما دون.

دمشق أيضا لا تزال بمنأى عن مشاركة أهلها الفعالة. التظاهرات التي حصلت حتى الآن لا تتناسب مع التعداد السكاني لمدينة دمشق، ولا مع وجود الجامعات الأساسية فيها ما يجعلها مقراً لشريحة واسعة من الشباب، إضافة إلى كونها العاصمة السياسية والثقافية للبلاد. ورغم أن دمشق أحيطت بتظاهرات واسعة، طوّقتها كالسوار، في مختلف أريافها ومناطقها المحيطة، إلا أن الحراك لم يمتد إلى قلبها. ربما يعود ذلك إلى شدة العنف في قمع تظاهرات الجامع الأموي، حيث شوهدت الدماء على الأرض نتيجة ضرب المحتجين. وفي تظاهرة الجمعة 25 آذار، قال شهود عيان إن بلطجية النظام استخدموا أدوات حادة لضرب المتظاهرين على رؤوسهم. لكن بالتأكيد لا يشكل ذلك سبباً كافياً، خصوصاً أن القمع والعنف مورسا في مختلف المحافظات وضد معظم المتظاهرين. والجميع يعلم أنه من دون حراك كبير وواسع في العاصمة، ستبقى الثورة بعيدة من مرادها.

العنصر الثالث الذي بقي بمنأى عما يحصل هو المجتمع الكردي في سوريا، والذي لطالما كان سبّاقاً إلى الحراك الاحتجاجي في الشارع، وسقط منه شهداء في العام 2004، واعتقل منه المئات، إن لم نقل الآلاف، على مدى سنوات. فقد اتخذت القيادات الكردية قراراً بعدم المبادرة إلى التحرك كي لا تتم الإساءة إلى الحراك على اعتبار أن السلطة تستغل الحراك الكردي لتوجيه أصابع الاتهام بالرغبات الانفصالية والأيدي الخارجية. وكان ذلك مفهوماً بل ومؤيداً على نطاق واسع من قبل السوريين. لكن مع مضي الوقت، وتوسع الاحتجاجات، أصبح الصمت الكردي ونأيه بنفسه عن الحراك الاحتجاجي مثار تساؤل واستياء. فلا أحد من السوريين المنخرطين في الثورة يريد أن يشعر بأن الشارع الكردي لا يتحرك إلا لأهداف قومية خاصة به، ولا يريد أن يرى مواطنيه الأكراد بعيدين عن الحراك الوطني الحالي. والحال إن هناك تعويلاً كبيراً على الحراك الكردي، لقدرته على تحريك الشارع في المناطق التي لا تزال بمنأى عن الأحداث حتى الآن، كالقامشلي وغيرها.

اللاذقية والفتنة الطائفية

في خضم التحركات، ظهرت اللاذقية بمتظاهريها رافعين الشعارات ذاتها التي رفعت في بقية المدن السورية. إلا أن الأحداث سرعان ما اتخذت أبعاداً أخرى مؤسفة، أدت إلى وقوع شهداء وسريان شعور بالخوف من تحول ما يحصل إلى نزاع طائفي في المدينة التي تتوزع على الطائفتين العلوية والسنية.

ما حصل تمثل في هجوم مجموعات، مدججة بالسلاح الأبيض والرصاص الحي، على أحياء علوية باسم الطائفة السنية، وعمدت إلى تخريب ممتلكات عامة وخاصة. الرأي السائد كان يتحدث عن أن تلك العصابات ليست سوى “الشبيحة”، أي العصابات ذات النفوذ من أقارب العائلة الحاكمة. ويتناقل الناس أنها قامت بذلك بهدف افتعال نزاع طائفي في المدينة للتغطية على مطالب المواطنين المحقة وتخويف السوريين من أي تغيير محتمل. ومع ذلك، علت بعض الأصوات، من النخب العلوية المثقفة، فعبّرت عن خوف شديد مما يحصل. وذلك ما يؤشر إلى أنه، رغم عدم وقوع أحداث طائفية فعلاً على الأرض، منذ بدء الثورة، إلا أن مخاوف كبيرة تعتري الأقلية العلوية مما يحدث، وهو ما يقتضي تطمينها بأن الثورة لا يمكن أن تستهدفها، بل هي تستهدف رموز الفساد والاستبداد من كل الطوائف، الأمر الذي دفع المثقفين السوريين إلى إصدار بيان تحت مسمى “عهد وطني: سوريا وطن لجميع أبنائها”.

في ما عدا ذلك، حظيت الثورة بمشاهد لا تنسى من أجمل ما يدل على وحدة السوريين وتكاتفهم بغض النظر عن الطوائف والقوميات والمناطق.

ففي حين كانت تظاهرات مدينة درعا تهتف للاذقية تحية لحراكها وشهدائها، كانت اللاذقية تهتف لدرعا وترفع شعارات الوحدة الوطنية والحرية.

والواقع أن لعب السلطة على الوتر الطائفي لم يقتصر على هذا الأمر، بل إنها عمدت إلى استخدام رؤساء الطائفية السنية التابعين لها لتسفيه الاحتجاجات وتخوين القائمين بها واعتبار ما يحصل بمثابة مؤامرة خارجية. هذا ما دفع المتظاهرين في درعا إلى رفع شعار “يا بوطي، يا حسون، الشعب السوري ما بيخون”، منددين بمواقف الشيخ رمضان البوطي، أحد أكثر رجال الدين المسلمين المقربين من السلطة، ومعه الشيخ أحمد حسون مفتي الجمهورية.

من العصابات المسلحة إلى الأصولية الدينية

بطبيعة الحال، فإن تخوين الحراك الاحتجاجي واتهامه بشتى التهم، بدءاً من العصابات المسلحة مروراً بمؤامرة خارجية وانتهاء بالأصولية الدينية، كان لسان حال معظم ممثلي السلطة وفي مقدمتهم مستشارة الرئيس للأمور السياسية بثينة شعبان. ساهمت تلك الاتهامات في تأجيج غضب السوريين لما انطوت عليه من إهانة لهم ولشهدائهم الذين سقطوا بالرصاص الحي في احتجاجات سلمية. وأصبحت كلمة “مندس” من التعابير التي يتناقلها السوريون سخريةً من المواقف الرسمية التي اتهمتهم بأنهم مندسون، بل وتأكيداً بخفة ظل على “اندساسهم” باعتباره مطلباً محقاً للحرية والعدالة.

وبلغ الخطاب الرسمي أوج تناقضه، حين بدأ بتقديم الوعود لتحقيق مطالب المحتجين، خصوصاً رفع حالة الطوارئ، مع استمرار خطاب التخوين! كأنه يرغب في تخفيف الضغوط الشعبية والدولية التي تمارس عليه، لكنه، في الوقت نفسه، لا يرغب في إبداء أي تنازل حقيقي أمام السوريين، وبحيث يبدو ما يقدمه من وعود وكأنه مكرمات من قبل النظام الحاكم لا حقوق مشروعة لأهل البلد.

هذا الخطاب أوقع حتى موالين للنظام في مأزق سياسي وأخلاقي. فوجدنا العديد منهم مؤخراً ينبرون لتأييد المطالب المحقة للمحتجين، ولمطالبة النظام بإحداث إصلاحات عاجلة والنأي بأنفسهم عن خطاب التخوين والاتهامات، وإن لم يمتد ذلك بطبيعة الحال إلى اتخاذ موقف معارض للنظام الحاكم. وشمل ذلك شريحة واسعة، ابتدأت بالفنانين الذين عرفوا بولائهم للنظام وانتهت بشخصيات عامة كانت سابقاً تحترف الدفاع عن النظام من على المنابر الرسمية والإعلامية.

ضحايا الثورة

ما جعل الرأي العام المحلي والدولي يقف بشدة ضد ممارسات السلطة خلال الشهر الأخير كان الصور ومقاطع الفيديو الأليمة، التي بثت على الفضائيات ومواقع الانترنت، وتظهر عمليات قتل المتجين بدم بارد، إضافة إلى مشاهد مروعة لدماء سفكت بوحشية غير معقولة في غير مكان من سوريا. تجاوز عدد الشهداء الـ150 شهيداً، وذلك خلال فترة قياسية من عمر الثورة السورية، فضلاً عن مشاهد قمع الاحتجاجات من قبل “بلطجية” النظام وما مارسوه من عنف عار ضد المحتجين.

وساهم اعتقال المئات في زيادة النقمة، إذ انسحبت الموجة على امتداد سوريا، وبين المعتقلين شخصيات وطنية معروفة ومحامين ونشطاء، في الوقت نفسه كان الخطاب الرسمي يخرج يوميا ليعد بالإصلاحات والتغيير المرتقب.

من ناحية أخرى، أثارت مشاهد تمزيق صور الرئيس بشار الأسد وتحطيم تماثيل للرئيس الراحل حافظ الأسد، ذعر النظام والموالين له. إذ أشار ذلك إلى انكسار حاجز الخوف عند الكثير من السوريين، وإلى أن سقف مطالبهم ليس مزيداً من الحريات وحسب، وإنما رأس النظام الحاكم. وفي حين اقتصرت معظم التظاهرات على المطالبات بإلغاء حالة الطوارئ وتحقيق المزيد من الحريات، إلا أن بعضها رفع فعلاً شعار إسقاط النظام، وهو ما تعلم السلطة الحاكمة أنه المطلب الحقيقي وراء الاحتجاجات الحالية.

مستقبل الثورة السورية

في المحصلة، أثبت السوريون، خلال الأيام الآذارية الماضية، شجاعة ووعياً كبيرين وإصراراً على سلمية الاحتجاجات حتى تحقيق المطالب. وأبرزت ردود فعل السلطة تخبطاً كبيراً، ما بين تدبيج الوعود والممارسات العنيفة على أرض الواقع، والإصرار على الاستمرار في النهج القديم حتى لجهة تسيير التظاهرات المؤيدة للنظام وإجبار الموظفين وطلبة المدارس على المشاركة تحت طائلة العقاب. ويبقى السؤال الرئيسي: كيف ستكون الأيام المقبلة؟ وما هو مصير الحركة الاحتجاجية في سوريا؟ خصوصاً في ظل عدم مشاركة شرائح واسعة حتى الآن، واستنكاف الشارع الكردي عن المساهمة، وبقاء المدينتين الأهم في سوريا، سياسياً واقتصادياً، أي حلب ودمشق، خارج المعادلة حتى اللحظة، وعجز المعارضة الوطنية عن اللحاق بالأحداث أو تشكيل دافع لها ولو بالحد الأدنى.

يجمع المراقبون أن الأيام الآتية ستكون حاسمة في تحديد مسار هذا الحراك. فإما أن تشهد المدن السورية توسعاً في الاحتجاجات، تكون مقدمة لتغيير حقيقي آت مهما تأخر، أو أن يستنكف الشارع السوري عن المشاركة بفاعلية تحت وطأة الخوف، بما يتيح للنظام إعادة ترتيب أوراقه وقمع الحراك الاحتجاجي القائم والقيام بإصلاحات شكلية تمد في بقائه إلى حين.

من الصعب التنبؤ أي المسارين ستأخذه الأيام المقبلة، لا سيما مع سقوط تلك الأعداد الكبيرة من الشهداء وتلطخ أيدي النظام بدماء أبنائه، وهو ما كان نظام بشار الأسد، حتى اللحظة، بعيداً عنه نسبياً، على الأقل علناً، حتى الأيام الأخيرة.

يأمل السوريون، خصوصاً من شاركوا وساهموا في الحراك الاحتجاجي، بأن تمضي الثورة حتى نهايتها، حتى تحقيق مطالبهم بالحرية والكرامة والتعددية السياسية وإنهاء أبدية الرئاسة ونظام الحزب الواحد. ويمكن تلمس خوف هؤلاء من ألا تنتهي الأمور كما يرغبون، رغم التضحيات التي قدمها السوريون خلال الشهر الماضي. لكن الواقع أكبر من الأمنيات، والواقع يقول أنه إذا لم تشهد سوريا توسعاً في الحراك الاحتجاجي، يستمر زمنياً ويكبر عددياً، ويغطي مختلف أطياف الشعب السوري، فإن النهاية قد لن تكون تماماً كما يشتهي أصحاب الثورة والحالمين بها. الأيام المقبلة كفيلة بالجواب، وهي أيام ثقيلة ومقلقة، على السوريين جميعاً، شعباً وسلطة، كل لأسبابه.