دمشق تقاوم الموت عطشاً
تتزود المنازل بالمياه عبر الصهاريج وبكلفة مرتفعة جداً تصوير كرم منصور (1)
"ويتخوف سكان العاصمة من فقدان المياه إلى الأبد، نتيجة الانفجارات الشديدة التي شهدتها المنطقة والتي يمكن أن تؤدي إلى تسرب المياه إلى أعماق سحيقة لا يمكن إخراجها منها."
تقطن أم أحمد (45 عاماً) في باب السريجة، أحد أقدم أحياء العاصمة. يشهد هذا الحي العريق أزمة انقطاع المياه عن المنازل، وهو ليس الحي الوحيد بحيث تعيش دمشق هذه الأزمة منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر.
بدأت الأزمة مع انطلاق الحملة التي شنها الجيش التابع للنظام على وادي بردى. وهو الوادي الذي يحتوي على أهم المصادر المائية للعاصمة. عين الفيجة التي تبعد عن دمشق مسافة 15 كلم وتغذي العاصمة ب 30 متر مكعب من المياه في الثانية الواحدة بحسب مصادر من مؤسسة المياه في دمشق.
تقول أم أحمد: “في 23 من شهر ديسمبر كانون أول الماضي، بدأ النظام هجومه على الوادي… وبعد مرور يومين على بدء الحملة العسكرية انقطعت المياه عنّا”.
وتضيف أم أحمد: “دمشق تغرق بأمطار الشتاء ونهر بردى شريان دمشق يفيض على جانبيه. ومع ذلك هناك سبعة ملايين من أهالي العاصمة يعانون العطش”.
حالة انقطاع المياه عن العاصمة بررها النظام بحسب وكالة الأنباء الرسمية “سانا” بأن قوات المعارضة هي من قطعت المياه عن دمشق. من جهتها نفت فصائل المعارضة في الوادي ذلك. وأعلنت أن سبب انقطاع المياه كان نتيجة استهداف النظام لمركز الضخ في عين الفيجة، ما أدى إلى تعطيل المحطة وخروج المياه باتجاه نهر بردى. وهو ما أكدته بعض المصادر هناك.
انقطاع المياه عن العاصمة غير الكثير من ملامحها، حيث بدأت طوابير الناس تجتمع في الحدائق العامة التي تحتوي على خزانات كبرى. كما انقطعت المياه عن الصنابير العامة المتوزعة في دمشق، وهي التي تشتهر بها.
إبراهيم (14 عاماً) يقطن في حي باب مصلى في وسط العاصمة، يقول “منذ حوالي الشهر وبشكل يومي وبسبب انقطاع المياه نقوم أنا وإخوتي هادي ومهدي، بنقل المياه من حديقة ابن عساكر إلى البيت”.
يتابع ابراهيم كلامه قائلاً: “عندما تصل المياه إلى حديقة ابن عساكر نصطف في طابور يتألف من مئات الأشخاص. يحق لكل شخص من أبناء الحي بصفيحة 25 ليتر من مياه الصنبور المتواجد في الحديقة. بعدها نقوم بنقل المياه انا وإخوتي لبيتنا في الطابق الخامس”.
يختم ابراهيم كلامه: أثناء نقلنا للمياه من الحديقة العامة إلى بيتنا أتذكر حكايات جدتي عن الساقية والبئر ونقل المياه. أصبحنا نعيشها اليوم”.
مظاهر الطوابير التي بدأت تنتشر في دمشق للحصول على المياه، ليست السمة الوحيدة التي بدأت بالظهور في العاصمة، حيث لجأ بعض العاملين في المؤسسات الحكومية إلى اصطحاب العديد من الغالونات البلاستيكية لتعبئتها من الدوائر الحكومية حيث يعملون.
أبو ماهر (59 عاماً) من سكان حي الزاهرة ويعمل في مبنى المحافظة في ساحة المرجة. يقول أبو ماهر: “عندما لا أستطيع الحصول على المياه، أقوم باصطحاب من الغالونات معي، أقوم بتعبئتها من مكان عملي حيث أسعى لأن يكفيني خمسين ليتر من المياه لليوم الواحد.
يضيف أبو ماهر: منذ بداية أزمة المياه تغيرت العديد من عاداتنا اليومية لنتلائم مع شح المياه، حتى مرات الاستحمام تقلصت بسبب الحاجة الملحة إلى المياه.
كذلك فقد ارتفع سعر مياه الشرب بنحو أربعة أضعاف خلال شهر واحد، تزامن ذلك مع احتكار العديد من التجار للمياه المعدينة مستغلين حاجة الناس لها، في حين نشرت مديرية التجارة الداخلية العديد من السيارات التي تقوم ببيع المياه المعدنية بتسعريتها النظامية رداً على ارتفاع سعرها الذي فرضه العديد من التجار.
أحد العاملين في جامع السنانية في حي الجابية بدمشق ويدعى الحاج أبو محمد (63 عاماً) يقول: “انقطاع المياه في دمشق لم يقتصر على الشوارع والمرافق العامة بل وصل أيضاً إلى الجوامع. في معظم جوامع العاصمة أغلقنا المواضئ في وجه المصلين لعدم توفر المياه، وطالبنا المصلين بالوضوء في منازلهم والقدوم بعدها إلى المسجد”.
ويضيف أبو محمد ” أنا أعمل في هذا الجامع منذ 30 عاماً، وأتردد عليه منذ 58 عاماً، لم تنقطع المياه عنه، إلا هذه الأيام. أهالي دمشق لم يحرموا من المياه منذ مئات السنوات مثلما حرمنا منها في هذه الفترة”.
ويشير أبو محمد بيديه إلى أحواض الزرع المنتشرة في بهو الجامع. حتى النباتات بدأت بالجفاف، عندما تحرم دمشق من المياه يعني أنها تحرم من الحياة على مبدأ القاعدة الإلهية “وجلعنا من الماء كل شيء حي.”
المطاعم الشعبية ومحال الحلويات توقفت أيضا عن تقديم المياه التي كانت توفرها لزبائنها بشكل مجاني. بينما استبدلت محلات غسيل السيارات معداتها الآلية التي تستهلك الماء بشكل كبير، بالغسيل بالطرق اليدوية من خلال المسح بالقليل من المياه.
وشكلت أزمة المياه سبباً لعودة بعض العادات القديمة، حيث ازدحمت حمامات السوق بالزبائن طالبين الاستحمام، بسبب توفر المياه فيها على اعتبار أن لهذه الحمامات مخصصات ثابتة من المياه من وزارة السياحة. وقد شهدت اكتظاظاً في عدد الزبائن، وبات على الزبائن التسجيل قبل عدة أيام للحصول على موعد للاستحمام في حمام السوق.
بموازاة ذلك قامت المؤسسة العامة للمياه في دمشق، بنقل مياه الشرب من الآبار المحلية الموجودة في العاصمة إلى الأحياء محدد. لكن العديد من الأهالي اشتكوا عدم عدالة التوزيع. حيث أن الأحياء التي يقطنها مسؤولو النظام والتجار تتوافر فيها المياه بشكل دائم. بينما تنقطع عن الأحياء الشعبية.
تقطن أمينة (36 عاماً) في شارع العمارة وسط العاصمة دمشق. حيث تجد صعوبة بالغة في تأمين المياه. في حين أن أحياء مثل حي الجورة وشارع الأمين الذي لا يبعد عنها سوى مئات الأمتار تصله المياه بشكل منتظم.
تقول أمينة: “هذا التوزيع الغير عادل له علاقة بالولاء، فأحياء المالكي وأبو رمانة التي يقطنها المسؤولون والأغنياء، تتوفر فيها المياه بشكل دائم. كذلك أحياء الجورة والأمين والمزة 86 . فهذه الأحياء تشكل الخزان البشري للموالين للنظام، فيسعى إلى تأمين الخدمات فيها”.
شح المياه أدى إلى دفع الأهالي لشراء المياه عن طريق الصهاريج، التي تقوم بجلب المياه من الآبار المتوزعة في ضواحي دمشق ونقلها إلى البيوت. ويبلغ سعر برميل المياه، المخصص للغسيل غير الصالح للشرب ما يعادل 5 دولارات أميركية، اي خمسة أضعاف ما كان عليه قبل أزمة المياه.
عماد (36 عاماً) يعمل سائقاً على صهريج لجلب المياه، يقول: “في كثير من الأحيان تمنعنا الحواجز المنتشرة في دمشق من الوصول إلى البيوت التي نسعى لتلبيتها، ويأمرنا الحاجز بقوة السلاح بالتوجه إلى منطقة أخرى”.
ويروي أنه في إحدى المرات، وعند حاجز منطقة الصناعة أوقفه الضابط المسؤول عن الحاجز وأرسله مع أحد العناصر لتفريغ المياه في منزله الواقع في مزة 86، مهدداً إياه بالاعتقال ولم يعطه أي أجر لقاء ذلك.
ويلفت عماد إلى “ان هذه الحادثة تكررت مع العديد من السائقين حيث أن ضباط الحواجز يأمروننا بتعبئة المياه في بيوتهم تحت التهديد بالاعتقال.”
انقطاع المياه شكّل سبباً لانتشار العديد من حالات التسمم، نتيجة قلة النظافة. وذكرت مصادر طبية في مشفى المجتهد وصول أكثر من 300 إصابة بالتسمم نتيجة تناول الخضروات دون غسيل، أو طهي الطعام في أوان ملوثة. كذلك استغنت العديد من المطاعم عن عادة غسل الصحون، وهي تعمد حاليا إلى مسحها عوضاً عن ذلك بمناديل مبللة توفيراً للمياه.
رغم إعلان النظام انتهاء عملياته العسكرية في وادي بردى والسيطرة عليه بالكامل، لا تزال دمشق تعيش أزمة مياه خانقة، بسبب الدمار الكبير الذي خلفه القصف، وتضرر تمديدات شبكة المياه التي يناهز عمرها 90 عاماً. ويتخوف سكان العاصمة من فقدان المياه إلى الأبد، نتيجة الانفجارات الشديدة التي شهدتها المنطقة والتي يمكن أن تؤدي إلى تسرب المياه إلى أعماق سحيقة لا يمكن إخراجها منها.