دلالات الحراك الثوري في السويداء
لم تكن المظاهرة الأخيرة في مدينة شهبا الواقعة في محافظة السويداء الحراك الأول في هذه المحافظة منذ بداية الثورة حتى الآن. لكن الملفت للنظر أن هذا التفاعل الثوري لم يمتد ليشمل القوى الشعبية كما في باقي المحافظات الأخرى، حالها في ذلك حال حلب والرقة وطرطوس وربما المناطق الشمالية ذات الأغلبية الكردية. فقد إقتصر هذا الحراك على بعض النخب النقابية والسياسية. وقد تعود الأسباب لخصوصية هذه المحافظة.
أغلبية سكان محافظة السويداء يعتنقون الديانة الدرزية، مما جعل الطائفة محافظة والمحافظة طائفة. وهذه الميزة غير موجودة في محافظات سورية أخرى. كما تمتاز المحافظة بخصوصية أخرى ونقصد بذلك التاريخ الثوري. فمنذ الاحتلال العثماني مروراً بالاحتلال الفرنسي، عُرفت المنطقة بمقاومة المحتلين. فقد قاد الشهيد سلطان الأطرش الثورة السورية الكبرى بدعم وإحتضان من كل المدن والطوائف السورية الأخرى رافعاً شعار “الدين لله والوطن للجميع”. وقد بقي هذا الرفض والتمرد خلال حكم نظام البعث نفسه من خلال وجود الكثير من السياسيين الذين عارضوا النظام الحالي. ولا يزال الجميع يذكر أحداث 2001 في المحافظة، بعد أقل من سنة على إستلام الأسد الإبن الحكم في سوريا. فقد فجّرت خلافات حول الزراعة والمراعي بين ما يسمى “بالبدو” وأهالي المحافظة أحداثاً أدت إلى إستخدام البدو للسلاح بعد أن سمحت لهم السلطة بالحصول عليه. وواجه النظام حركة الإحتجاج الشعبية السلمية بيد من حديد، أدى إلى سقوط أكثر من عشرين قتيل وحوالي المائتي جريح، معظمهم بسلاح الجيش السوري الذي أطلق الرصاص الحي على المشيعين العزل.
تعتبر محافظة السويداء من المحافظات السورية الفقيرة مقارنة بباقي المحافظات. فهي تعتمد على ثلاثة مصادر أساسية للدخل، أولها الزراعة البعلية الفقيرة. المصدر الثاني هو الإغتراب. نكاد نلمس الواقع بشكل دقيق إذا قلنا أنه يندر أن نجد بيتاً في محافظة السويداء يخلو من مغترب أو مهاجر، وقد بدأت هذه الظاهرة في بداية القرن العشرين مع حالة الحرب والفقر وعدم الإستقرار التي عاشته المحافظة في ظل الإحتلال العثماني. وتكاد بعض القرى تخلوا من شبابها بسبب الهجرة. أما المصدر الثالث فهو التوظيف. فأمام الواقع الإقتصادي المتدني لسكان المحافظة كانت الوظيفة هي الحال الأمثل والأضمن الذي سعى له أهالي المحافظة رغم تدني الدخل، ولكنه كان أفضل المتاح لمن لم يسعفه حظه بالإغتراب. وهذا يعني أن مصدر رزق المواطن أصبح مرتبطاً بشكل أساسي بعلاقته بالدولة.
هذه بعض الأسباب الإقتصادية العامة التي تبدو معادية لكل تمرد ولكل حراك ثوري، والتي إجتمعت مع أسباب اجتماعية أخرى تتعلق بالخصوصية الأولى وهي تخوفات بعض شرائح الأقليات الطائفية من التغيير، وتعامل النظام مع هذه المسألة من خلال سلوك أمني وعسكري يتسم بالحذر. ولكن لم تكن هذه الأسباب وراء تواضع الحراك. فهناك مدن أخرى لم تدخل بقوة على خط الثورة ولا تحمل الخصوصيات السابقة التي تحدثنا عنها. فحلب أكبر المدن السورية سكاناً وعاصمة البلاد الاقتصادية لم تتحرك بقوة، كما هو حال الرقة وطرطوس وغيرها. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على وجود أسباب عامة أقوى من الأسباب الخاصة لكل مدينة أو منطقة.
لقد شكل النظام منظومة كاملة خلال العقود الأخيرة في سوريا، لم تقتصر فقط على المنظومة الأمنية والعسكرية ومنظومة الفساد المنظم، بل اشتملت أيضاً على منظومة خاصة في الخطاب السياسي يتعامل على أساسها مع القضايا الوطنية للسوريين وللمنطقة مثل المقاومة أوالعروبة أوالقضية الفلسطينية. وبغض النظر عن الجانب التطبيقي لهذه الخطاب السياسي فإن هناك شريحة من السوريين اليوم ما تزال تؤمن بأن النظام هو حامي هذه القضايا. وسبّب ذلك شرخاً في بنية المجتمع السوري بين معارض وموالي يتجاوز حد الخلاف السياسي ليصل الى العداء والتخوين والقتل. وقد يكون هذا هو السبب الأساسي في “عرج الثورة السورية”، وخاصة في غياب رؤية واضحة وفاعلة من المعارضة السورية. كل ذلك توازى مع غياب لأي دور للمجتمع المدني على المستويين الإجتماعي والسياسي جراء سياسات الإستبداد، مما أدى إلى غياب منظومة أخرى تتعامل مع تلك القضايا الوطنية بما يتناسب مع تحقيق أهدافها من جهة، وصيانة حقوق الأفراد والجماعات داخل المجتمع السوري من جهة أخرى.
كما أن للخوف النابع من سلوك النظام الأمني والعسكري المتمثل في الإعتقال والتعذيب وكل أنواع التنكيل والإرهاب المنظم دوراً أساسياً في عدم تحرك بعض المناطق وخاصةً التي لم يسقط فيها ضحايا منذ بداية الثورة. فالخوف اليوم هو سيد الموقف وخاصة في المدن والمناطق التي لم تكسر هذا الحاجز بعد. لذلك يجب أن تتعامل المدن السورية مع بعضها البعض من منطلق أن لكل مدينة خصوصية تحيط بها، تحدد مستوى الحراك الثوري. كما أن تواضع الحراك اليوم في هذه المدينة أو تلك لا يعني أن هذا الوضع سيكون الميزة الثورية النهائية.
وتزامن حراك السويداء الأخير مع تصعيد أمني وعسكري في كافة مناطق سورية، وهذا يدل على أن التصعيد الأمني والعسكري سيكون سبباً في إنخراط باقي شرائح المجتمع السوري في الثورة بشكل أقوى على عكس ما يعتقده النظام. كما كان لغباء النظام في التعامل مع الإحتجاجات الأولى في درعا الدور الأكبر في تنامي هذه الثورة. فتحرك السويداء اليوم هو رسالة بأن القمع الذي يمارسه النظام سيلعب دوراً مهماً في تفعيل الحراك الثوري في المناطق ذات الحراك المتواضع. وما يؤكد صحة هذا التحليل هو تحركات حلب والرقة الأخيرة ووصول هذا الحراك إلى قلب العاصمة دمشق من خلال مظاهرات المزة.
الدلالة الأخرى تقول بأن النظام فشل في استراتيجيته المتمثلة في تقسيم الشعب السوري إلى ملل ومجموعات، وبأن الشعب السوري واحد، بل أصبح الدم السوري واحداً من خلال سقوط العديد من الجرحى في المظاهرة الأخيرة في شهبا. وأيضاً فشل النظام في تخويف مكونات الشعب السوري من بعضها البعض من خلال الشعارات التي هتف بها متظاهرو السويداء فدوةً لحمص ولدرعا ولكل المناطق السورية المنكوبة، وأيضاً ردة الفعل من مجلس الثورة السورية في حمص وحركة الإخوان المسلمين الذين خصا حراك السويداء ببيانين منفصلين يؤكدان فيهما وحدة الشعب السوري والتذكير بالتاريخ المدني للسوريين.
ونود أن نشير أيضاً إلى ارتفاع عدد شهداء الجيش من المحافظة، ووجود حالات مؤكدة بأن بعضهم قضى نحبه بسبب رفض اطلاق النار. وانشقاق بعض الضباط من المحافظة يدل أيضاً على أن السوري اليوم بات يدرك أكثر من أي وقت مضى على أن معركتة مع الاستبداد، وليس هناك معارك جانبية بين شرائح المجتمع السوري.
قد لا تحمل الأيام القادمة إندفاعة قوية للحراك في المدن التي لم تتحرك بشكل فعلي حتى الآن، ولكن من المؤكد وجود قلق وتململ كبيرين في تلك المحافظات وخاصةً السويداء، سيساهمان في الإنخراط بشكل حقيقي في الثورة. وربما سيكون تحرك السويداء القشة التي تقصم ظهر البعير.