داعش ورحلة النجاة
كان كل شيء بخير إلى أن قررت “داعش” اقتحام مدينة الحسكة والسيطرة عليها “وتطهيرها من المرتدين”، كما زعم التنظيم في شهر رمضان عام ٢٠١٤.
كنا أنا وصديقاتي نتناول وجبة الغداء في مطعمٍ قريب من بناء أمني تابع للنظام، داخل مدينة الحسكة في 14 حزيران/يونيو 2014، وكالمعتاد أنهينا طعامنا وبقينا حتى حلول المساء. ثم عدنا إلى منزلنا الذي نستأجره فترة إنهاء الامتحانات الجامعية، فكل واحدة منا من مدينة مختلفة.
دقّت الساعة الواحدة فجراً، وسمعنا حينها صوت انفجارٍ هائل هزّ المدينة بأكملها. خرج الحي الذي كنّا نسكن فيه بأكمله، وعمّت الفوضى أرجاء المكان وأصيب الجميع بالذعر والهلع. لكننا لم نعلم بعد ما الذي حدث أو ماذا سيحدث لاحقاً.
لم أستطع أن أخفي خوفي، فقد كان الوضع مخيفاً فعلاً، تذكرت في تلك الأثناء حين كان والدي يحاول منعي من السفر، وينصحني وأنا لا أسمع كلامه لم أكن أريد ترك الجامعة حتى التخرج.
خفت كثيراً، ودخلتُ إلى غرفتي خشيةً من تفجيرٍ آخر. رأيت إحدى صديقاتي تدعى براءة، تجمعُ أشياءها وملابسها بعشوائية، وتجهّز حقيبة سفرها، ناديتها: “ماذا تفعلين؟ أين ستذهبين بهذه الساعة؟ هل جننتِ؟” التفتت نحوي باكية ثم قالت: “أنت هي المجنونة إن بقيت أكثر في هذا المنزل”. نظرت إلى الغرفة ثم قالت: “إنهم إن يُمسكوا بنا، فسأكون مجرد سبية لهم لأنني “مسيحية”. جلست على الأرض وأجهشت بالبكاء، وبدأت تصرخ “سيذبحون نصف شبّان هذه المدينة ماذا سنفعل أين سنذهب؟”. لم أستطع تهدئتها لأنني كنت بحاجة إلى من يقف معي، ولو لبضع ثوانٍ ويخبرني أن هذا مجرد كابوسٍ سينتهي لا محالة.
فجأةً ووسط كل هذا الجنون والرعب. قُرع بابُ منزلنا بقوة. لم نجرؤ على فتحه إلى أن قُرع مجدداً بقوة أكبر. تشجعتُ وقلت في نفسي “لن يحدث إلا ما كتبه الله لنا” كما كان يخبرني والدي دائماً، ثم فتحت الباب، وإذا به سعيد، أحد شبان كلّيّتنا، يسكن بجوارنا. أدخلناه منزلنا لأول مرةٍ حتى دون أن ننتبه لذلك. دخل سعيد وأغلق الباب خلفه، كان يحاول التقاط أنفاسه، ثم قال: “داعش اقتحمت المدينة، وقاموا بتفجير المبنى بجوار مطعمكم المعتاد، ويحاولون الدخول إلى ساحة الرئيس (اسم منطقة). وقريباً سيصلون إلى هنا، تحقق ما كنا نخشاه”.
أخذت الأسئلة تنهال من الفتيات على الشاب، ولكنه كان خائفاً مثلنا عاجزاً لا يدري ماذا سيفعل. أصبحت الساعة الثالثة فجراً، الوضع كان هادئاً. غادر سعيد ليحضر بقية أصدقائه عند الساعة السادسة صباحاً كما اتفقنا، لنغادر جميعاً إلى مدينة الرقة، الخاضعة لسيطرة داعش منذ سنة، وذلك أفضل من البقاء هنا وانتظار المجهول. اتفقنا على أن نبقى نحن الفتيات في مزرعة لإحدى صديقاتنا، والشبان كذلك الأمر، ريثما يهدأ الوضع ونستطيع التفكير باطمئنان وأمان.
وفعلاً جمعنا أشياءنا بشكل نهائي حتى أصبح المنزل خالياً تماماً، أربعة جدران عارية وحقائبنا الخائفة ونحن! أصبحت الساعة السادسة ولكن لم يأتِ إلينا أحد. كنا نسمع أصوات الناس والجيران والمارة، وكأن المدينة بأكملها تخلي منازلها إلّا نحن. كنا عاجزين وقتئذٍ عن التحرك بمفردنا عالقين في ذلك المنزل، وكأنه سجن، ونحن المحكوم علينا بالإعدام ننتظر إصدار الحكم.
أصبنا بخيبة كبيرة، أحسست بالعجز، وقررت البقاء مع الفتيات وانتظار قدرنا. فكّرت بوالدّي ومنزلي الذي كنت أكرهه لأنه بعيد عن الجامعة. فكّرت بأمي التي كانت ستحزن حتى الموت إن حدث لي أي مكروه. شيء مضحك أن أفكر في كل شيء إلا نفسي.
نهضت سراب إحدى صديقاتي وأكبرنا سنَّاً وقالت: “سأبحث عن سيارة تُقِلُّنا إلى أي مكان يكون أكثر أمناً من هنا”. لم تنتظر سراب رأي أحدٍ منَّا وخرجت مسرعةً، غابت لمدة ثلاثين دقيقةً، حتى قُرع الباب. فوجئنا برؤية سراب مَغْميَّاً عليها في سيارة أجرة برفقة السائق وشاب آخر ساعد على حملها، وأدخلها إلى المنزل، وقال لنا: “كانت تسير في الشارع وسط الاشتباكات، كادت أن تصاب بطلقٍ ناري، فأغمي عليها بعد أن كانت تخبرني أنكن بحاجة لمن يقلّكن، وهي من أعطاني عنوان إقامتكن”.
كانت سراب تشبه الجثة. غائبة عن الوعي، شاحبة اللون باردة! لحسن الحظ كانت تسكن بجوارنا طبيبة كردية، حضرت إلينا بعد عناء طويل، وحاولت ايقاظ سراب وفعلا نجحت بذلك، أخبرتنا أن نتظاهر بأننا غير خائفات وأن الوضع ليس خطراً لأن ما أصاب سراب كان انهياراً عصبياً.
بعد ثلاث ساعات كان الوضع قد هدأ نسبياً واتفقنا جميعا على العودة كفريق كامل شبانّاً وفتياتٍ، بسيارة واحدة وتحّمل أعباء وتكاليف العودة. وفعلا خرجنا معاً عندما أمّن الشباب لنا حافلةً صغيرةً مهترئةً، وكان كل شيء على ما يرام، إلى أن وقعت مشكلة صغيرة مع سائق الباص، كان يريد منا مبلغاً كبيراً من المال حتى يقلّنا، ونحن مجرد طلاب لا نملك الكثير من المال. بعد ساعة كاملة من الجدال حول المبلغ. أخيراً وافق الرجل بشرط أن ندفع له كامل المبلغ الذي يريده عندما نصل إلى مدينة الرقة، ولم يكن أمامنا إلا أن نوافق على ما يقرره أو ما يقوله، وإلا سوف نهلك بمجرد وصول داعش إلينا.
ركبنا الحافلة جميعاً وقاد الرجل بنا طويلاً في طرق فرعية مخيفة غير سالكة. كنت خائفة كثيراً وكنت أتخيل طوال الوقت كيف ستكون نهايتنا، هل سنصل؟ هل سنموت؟ أو كيف سنموت؟ كان الجميع مرتبكاً، والصمت هو السيد الوحيد للموقف، والرعب كنّا قد بدأنا اعتياده.
قال سائق الحافلة: “هنيئاً لكم أيها الشباب، حظكم جيد، لقد خرجنا من الحسكة تماماً، ونحن في طريقنا نحو الرقة، أمامنا طريق طويل لذلك سأقف قليلاً لنستريح”. أوقف الرجل الحافلة على جانب الطريق، ونزل مع الشباب ليستريحوا قليلاً، وبعد بضع دقائق. شاهدت سيارة جبلية كبيرة، كانت تقود نحونا بسرعة جنونية، شاهدها الآخرون وأصيبوا بالذعر، أصبحت السيارة على مقربة منا، بضعة أمتار تفصل بيننا. وفجأة توقفت السيارة، ونزل منها مسلحون ملثمون، هيئاتهم غريبة، قصار القامة. تقدم نحونا اثنين منهم، صرخت إحدى الفتيات “داعش، داعش”. أذكر حينها أني كنت أضع وشاحاً بنياً على عنقي. ولشدة ذعري سحبته بسرعة ووضعته على وجهي حتى لا أقتل بحجة السفور.
رغم جنون الموقف حافظنا على هدوئنا. كان الشباب والملثمون يتحادثون وطال بهم ذلك لبعض الوقت. إلى أن رأيت الملثمين قد ابتسما وغادرا نحو سيارتهما. صعد أحد الشباب إلينا وكان يضحك بغرابة. سألته ماذا حدث؟ لماذا نحن أحياء إلى الآن؟ ضحك بشدة. قلت له بتهكم أخبرنا ماذا حدث؟ انطق. فقال: “هؤلاء عناصر من داعش، أما كيف مازلنا أحياء. فلأنهم من الشيشان، أي انهم ببساطة لم يفهموا ماذا نقول ولا يفقهون شيئاً عن الإسلام، ولم يجدوا سبباً لقتلنا”. ضحك مجدداً ثم قال: “الكافر تركنا أحياء ومن يدعي الإسلام يسفك دماءنا. فلنكمل طريقنا وننتهي من هذه المسرحية المضحة سريعاً”. وفعلاً أكملنا طريقنا نحو الرقة، وكنا نشعر بالأمان بعد أن عرفنا أن عناصر داعش الذين يتواجدون على الطريق معظمهم أجانب لا يفهمون العربية، ولا يدرون شيئاً عن الدين الذي يقاتلون لأجله.
منى المحمد (20 عاماً) اضطرت لترك دراسة سنتها الجامعية الثالثة في الأدب العربي بسبب النزوح. ولدت بالطبقة بريف الرقّة، وعاشت متنقلة بينها وبين الحسكة ودير الزور، لتستقرّ بريف إدلب حيث تعيش مع أهلها حالياً.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي