داعش التي جلدت أبي

حتّى أبي الحاج لم يسلم من جلد داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام). أبي الحاج والمعتمر عدة مرات (بعد زيارة مكة للحج في المرة الأولى تصبح الزيارات اللاحقة للعمرة والتبرّك).

الخميس 3 مايو/أيار 2014، عند صلاة العشاء كان أبي يجلس مع عمي وبعض أصدقائه في محل عمله بالألبسة وسط السوق. كانت التيار الكهربائي مقطوعاً منذ الصباح، حال انقطاع الكهرباء دون عمل مكبرات الصوت عبر المآذن. لم يسمع أبي الآذان وتأخر دقيقتين عن الصلاة. هذا التأخير لم يمر على خير، شاب من سكان الطبقة انتسب حديثاً للتنظيم، ورغم معرفته بأبي، إلّا أنّه اعتقله ومن كان يجلس معه بمن فيهم عمي، بتهمة التلهّي عن الصلاة. قادهم جميعاً إلى مركز “الحسبة” حيث يتم إنزال شتى أنواع العقوبات بالمخالفين لتوجيهات داعش بما فيها الجلد.

قال أبي إنّه تم احتجازهم داخل غرفة لا محط لقدم فيها، وجميع من كان مُحتجزاً داخلها تم مُغافلته واصطياده.

قاموا بصلاة العشاء جماعة، ومن ثم قدِم إليهم رجل يبدو في بداية الاربعينيات، رجّح أبي من سحنته ولكنته أنه سعودي الجنسية. أفتى الرجل بعقوبة لكل واحد فيهم، حكم عليهم بالجلد جميعاً وعقوبة التخلّف عن الصلاة 16 جلدة.

روى أبي أن أحد الرجال أثناء جلّده صرخ مستنجداً بالرسول: يا محمد. فغضب منه الجلاد، وصرخ به أتشرك بالله يا كافر يا زنديق؟ خُذوه. كان الرجل كبيراً في السن نحيلاً كما وصفه أبي، زلّة لسانه ضاعفت عقابه. عندما حان دور أبي أخذ الجلّاد يمارس عمله بتهاون، من المؤكد أنه قد أُرهِقَ لكثرِة العقوبات التي طبقها. أحد المهاجرين من داعش بدا من لهجته، وبحسب أبي، أنه تونسي الجنسية، كان يقف إلى جانب الجلاد للمراقبة. غضب على الجلاد لتهاونه في تنفيذ عقوبة الجلد، وقال له: “أجلد بحزم لتطبيق العقوبة بشكلها الصحيح”. هنا لم يتمالك عمي نفسه، عندما سمع كلام التونسي، فخلال سنوات عمره الأربعين لم يسبق له رؤية أحد قد تجرأ على إهانة والدي أو إهانته، اشتعل غضبا وصرخ بهم جميعا “دعوه. ابتعدوا عنه”. حاول أبي تهدئته حتى أثناء جلده، متظاهرا بأنه لا يتألم. وصمت عمّي، فلا خيار لديه، قوة السلاح والجهل كانت أقوى من كل شيء، كافية لإخضاعهم. أخيراً وحين حان دور عمّي كان عقابه مضاعفة عدد الجلدات، ثمن صوته الذي تسلل بغصة من حنجرته.

أمرأة تساعد زوجها على المشي في حي بستان القصرفي حلب. تصوير براء الحلبي

في ذاك اليوم الذي انتهى بنكهة داعشية بحتة، عاد أبي إلى لمنزل بظهرٍ مُتورم، كلوحة تمثل مجزرة لهتلر كانت الدماء سيدتها.

لم يستطع أبي النوم تلك الليلة، ليس بسبب ألم ظهره بل لألم قلبه. قال لنا ليلتها: “لم يوجع قلبي سوى ذُلهم لنا بحجة الإسلام، كان ذُلاً من نوع آخر، وصوت أخي المنكسر، كسرني”.

تنظيم “داعش” يتبع تفسيراً متشدداً للإسلام يشجع على العنف والقتل باسم الدين، ويعتبر الذين يخالفونه في معتقداته وتفسيراته للإسلام كفاراً ومرتدين. يسعى أعضاؤه حسب اعتقادهم، إلى إعادة الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة. هؤلاء الشُبان المُنتسبين للتنظيم ينفذون الأحكام، يعتقلون ويجلدون ومعظمهم عاجز عن فك الحروف وفهمها، إما لجلهه أو لاختلاف لغته من الجنسيات الأخرى التي قدمت إلينا.

منذ أن سيطر تنظيم داعش بعد الجيش الحر على مدينتي الطبقة والرقة في 9 أبريل/نيسان 2014 سيطرة كاملة، تهافت على المدينتين العديد من المهاجرين الذين جاؤوا من مختلف انحاء العالم للمشاركة في الجهاد المزعوم . إضافة إلى السوريين في صفوف داعش شهدنا مهاجرين من الوطن العربي كتونس، اليمن، مصر، العراق، مع كثرة من السعوديين وأغلبهم يصبحون أمراء حاكمين. أما من بقية العالم، فشهدنا مهاجرين من فرنسا، أميركا، بريطانيا، روسيا، كوريا، وغيرها. هؤلاء كانوا ينفذون العمليات الإستشهادية عند الإقتحام، كما أنهم يتواجدون على الحواجز بكثرة رغم جهلهم باللغة العربية التي نتكلمها كشعب عربي سوري.

بعد تمكن “داعش” من السيطرة وفرض قوانينها، بدأت تتفنن بعقوباتها، لمزيد من الترهيب والبطش. فقد أصبحت تنفذ عقوباتها على العلن وسط المدينة، خصوصاً أيام الجمعة بعد صلاة الظهر. أذكر في يوم جمعة انتشر خبر تنفيذ عقوبة الجلد برجل مسن، لكننا لم نستطع معرفة تهمته، وفعلاً بعد صلاة الظهر وسط السوق، اجتمع حشد كبير من الرجال والنساء وحتى الأطفال لمشاهدة تنفيذ الحكم. حضر اثنان من “التنظيم” وقاما بتعليق الرجل على خشبة كبيرة تم نصبها مسبقاً تشبه منصّة الإعدام. حضر الجلاد أخيراً خافياً وجهه، أخذَ ينفذ عمله بجلد الرجل المسكين بحرفية ملفتة، كنتُ أشاهد الرجل وهو يُجلد وسط الناس وكأنني في صالة سينما تعرضُ فيلماً لشدة إحترافه بدا حقيقياً، أو كابوساً مرعباً احتجت من يوقظني منه وينتشلني من بين فكيه اللذان أعتادا مضغ اللحوم.

لم يُكمل الجلاد عمله، فقد أدمى الرجل حتى فقد وعيه.

منى المحمد (20 عاماً) اضطّرت لترك دراسة سنتها الجامعية الثالثة في الأدب العربي بسبب النزوح. ولدت بالطبقة بريف الرقة وعاشت بينها وبين الحسكة ودير الزور لتستقر بريف إدلب حيث تعيش مع أهلها حالياً.

بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي