دار الأوبرا السورية تحتفل بالأغنية الدينية

لا كراسي للأوركسترا على خشبة دار الأوبرا السورية ولا مساند لأوراق النوتة. فالجمهور لم يكن على موعد مع إحدى الفرق السيمفونية أو إحدى فرق الرقص المسرحي المعاصر، بل كان أمام فرق للموسيقى الدينية قدمت من الباكستان والهند وماليزيا والمغرب ولبنان وسوريا لإحياء مهرجان دمشق للأغنية الدينية. افتتح المهرجان بحفل لفرقة “نفحات” السورية للإنشاد الديني رافقتها لوحات من رقص السماح بالاشتراك مع فرقة “جوقة الفرح” ذات المنشأ الكنسي للتراتيل المسيحية.

لأول مرة منذ افتتاحها عام 2004 تفسح دار أوبرا دمشق الفرصة لتظاهرة موسيقية دينية على مسارحها. ويمكن اعتبار هذه الخطوة إشارة ليست بالبسيطة، إذا عرفنا أن حفل ختام الدورة الأولى من مهرجان دمشق للأغنية الدينية أحيته فرقة “تهليلة” للإنشاد والتعابير الروحية بالتزامن مع الأمسية الكبرى التي شهدتها دار الأوبرا المصرية بالقاهرة احتفالاً بعيد المولد النبوي. الفرقة الشامية “تهليلة” احيت الأمسية الأخيرة من المهرجان بآيات من القرآن الكريم والصلوات، كما تضمنت باقة من الأغاني والأناشيد والابتهالات والتواشيح الدينية التي تحتفي بمولد الرسول، متناولة السيرة النبوية.

هشام الخطيب مدير المهرجان قال: “إن فكرة إقامة مثل هذه الفعالية كانت قد بدأت منذ عام 2009. ففي سورية وفي منطقة الشرق الأوسط لا توجد مثل هذه التظاهرة الهامة التي نعمل اليوم من خلال دعوة العديد من الفرق الدينية إليها بعد التعاون البناء الذي قدمته إدارة الأوبرا السورية لمهرجاننا”.

الفنان الباكستاني فايزان بيرزادا الذي يدير مهرجان لاهور الدولي للفنون والذي اشترك مع فرقته في المهرجان الدمشقي يرى أن هناك أكثر من نقطة التقاء بين موسيقى الباكستان الصوفية والموسيقى الدينية العربية: “حيث تشكل الأبعاد الروحية لهذا النوع من الأداء نمطاً فلسفياً واحداً يعبر عن روعة الخلق والخالق في نظر الإنسان المتأمل المندمج مع قوى الطبيعة والخير والحب، هذه القيم التي لطالما جسّدها الإسلام كدين عالمي يدعو إلى التسامح بين البشر منذ نشوئه في قلب الجزيرة العربية بدايات القرن السادس الميلادي”.

الفرقة المغربية “شمس الأندلس” اعتمدت في أناشيدها على تراث كبير من أشعار الأذكار والزوايا الصوفية الرائجة في بلاد المغرب العربي لتكون الفرقة بمثابة حافظة تراثية لآلاف الأبيات من المدائح النبوية وحلقات التصوف وفق مناجاة صوتية برفقة الطبول والمزامير والرقصات المتضرعة.

أما من التراث السرياني المسيحي القديم فقد قدمت المغنية اللبنانية غادة شبير نصوصاً سريانية تعود إلى القرن الرابع الميلادي والتي ترجمتها بنفسها إلى العربية. ونقلت شبير العديد من الترانيم الكنسية على خشبة المسرح مقدمةً إياها وفق صيغة موسيقية زاوجت بين فرادة الحنجرة البشرية كأقدم آلة موسيقية، وبين مجموعة من الآلات الموسيقية. وتمكنت الفرقة اللبنانية من أن تدمج بين تلوينات متعددة من موسيقى البيانو والعود والقانون والكمان.

الغناء الديني للبلدان الأخرى من شبه القارة الهندية كان حاضراً مع فرقة “القوالي” البنغالية، مقدمةً الغناء الفردي مع خمسة عازفين على آلات شرق آسيوية تقليدية، وفرقة “ريحان” الماليزية التي حاولت إعطاء الأغنية الدينية نوعا من الحركية والتنوع وإضفاء العصرية عليها، لاسيما من خلال إيقاعات البيركشن ونغمات الكيبورد مع تعالي أصوات المنشدين وحركاتهم، لتبدأ أخيراً “ريحان” حفلها بأنشودة “أسماء الله الحسنى”.

حدث كل ذلك في عقر دار أهم مؤسسة ثقافية في سوريا لطالما تباهت بتوجهها الثقافي العلماني كتجسيد لسياسة بلدها، مما يطرح أسئلة عديدة عن التوجه الجديد للسياسة الثقافية السورية منذ اندلاع الأزمة في البلاد في الخامس عشر من آذار/مارس من العام الماضي. وشهدت هذه الأزمة إطلاق فضائية “نور الشام” كأول قناة دينية سورية. وعلى الرغم من إشراك فرق ذات طابع صوفي أكثر منها فرقاً دينية، إلا أن احتضان الأوبرا الكامل لمثل هذا النوع من الأنشطة وحمل أعبائه الإنتاجية يثير الكثير من إشارات الإستفهام.

السؤال الأول يدفعنا لمعرفة أسباب إقامة موالد وحضرات نبوية بينما ألغت الأوبرا السورية كبريات مهرجاناتها السنوية، وكان على رأسها مهرجان دمشق السينمائي الذي “عُلق” حتى إشعارٍ آخر كما قال مدير المهرجان الناقد السوري محمد الأحمد بسبب الأزمة المندلعة في البلاد. كما تم إلغاء الدورة الثالثة من مهرجان دمشق للرقص المعاصر، والذي كان يقام برعاية سفارات دول الإتحاد الأوروبي الموجودة في سورية بالتعاون مع شبكة “مساحات” للرقص المعاصر في كل من عمان وبيروت ورام الله، وبإشراف من الكريوغراف السورية مي سعيفان.

كما أُجلت حفلات موسيقية كثيرة. فقد إعتذرت فرقة الفنان اللبناني رامي خليفة عن إقامة أمسية لها في القاعة الرئيسة بالدار تتسع لأكثر من ألف متفرج والتي كان مقرراً تقديمها في الصيف الماضي، إضافةً إلى تأجيل العديد من حفلات فرق أوروبية، لتحل محلها حفلات لفرق روسية وآسيوية كفرقة الموسيقي الأذربيجاني عسكر علي أكبر.

لكن اللافت في برنامج حفلات الأوبرا لهذا العام كان حضور الموسيقى الشرقية. فكان مهرجان “مساحات شرقية” الفعالية التي عوضت بها إدارة الدار عن حفلات عدة تم الإعتذار عنها، ليقتصر هذا المهرجان الذي أداره الفنان هانيبال سعد في معظم أيامه على محاضرات تخصصية في الموسيقى البابلية القديمة، ولتحضر من جديد فرقة التوشيح الحديث والمغني ريبال الخضري، إضافة إلى التخت النسائي الشرقي الذي حضر أكثر من مرة دون هوادة.

مهرجان الأغنية الدينية لقي تغطية جيدة من الإعلام المحلي. فالتلفزيون الحكومي خصص رسالة يومية عن ايام مهرجان دمشق للأغنية الدينية وكرس أخبار أمسياته في النشرات الإخبارية الأجنبية. كما خصصت إذاعة شام إف إم فقرات يومية من برامجها للإطلالة على ايام المهرجان. وبثت إذاعة دمشق فقرات كاملة من الأمسيات في دار الأبرا.

ولقيت بعض أيام المهرجان إقبالاً منقطع النظير لكنه كان جمهوراً لم تعهده دار الأوبرا السورية من قبل، حيث كان هناك حضوراً كبيراً لرجال الدين من الطوائف المسيحية والإسلامية. بذلك ابتعدت هذه المؤسسة الثقافية لأول مرة منذ افتتاحها 2004 عن الشريحة الأكثر أهمية في جمهور أوبرا دمشق أي الشباب والشابات.

ربما اكتشفت دار الأوبرا السورية في ظل الأحداث الدامية التي تعصف بالبلاد الجانب الروحي للموسيقى. فكما كتبت عازفة الكمان ماريا أرناؤوط مديرة دار الأوبرا السورية، والتي لم نفلح في التحدث معها، على بروشور برنامج مهرجان دمشق للأغنية الدينية: “هل من أداةٍ أسمى وأكثر لا مادية حين ينشد المرء التواصل مع جانبه الروحي، وأن يعبر عن استسلامه السعيد إلى الإيقاع الكوني، أو أن يحتفل بوجوده وبكونه جزءاً من كلية كونية أو ينبري بصلاة خشوع؟”.