خمس دقائق في صيدنايا
تتطلب الزيارة القصيرة والنادرة إلى سجن صيدنايا اجتياز تدابير مضنية وغير واضحة.
ملاحظة: تم تغيير أسماء المتحدثين وإخفاء اسم المراسل لأسباب أمنية.
خمس دقائق أو أقل هي المدة المسموح بها لزيارة معتقلي سجن صيدنايا، شمال العاصمة دمشق. بحسب تقرير أصدرته “الرابطة السورية للدفاع عن حقوق الإنسان” في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، يضم هذا السجن الذي تديره “المخابرات العسكرية”، والذي ارتبط اسمه بقتل عدة موقوفين إسلاميين فيه إثر عصيان نفذوه في العام 2008، حوالي 14 ألف معتقلاً سياسياً. حتى الآن، لم يسجل خروج سجناء من صيدنايا بموجب العفو الذي أصدره الرئيس بشار الأسد في 9 حزيران/ يونيو.
للحصول على إذن برؤية المعتقلين، هناك مشقات كبيرة على أقاربهم المرور بها. كما يروي بعض هؤلاء الأقارب، تبدأ رحلة الحصول على ورقة الزيارة من مركز”القضاء العسكري”، وسط العاصمة دمشق. تسجل على طلب الزيارة أسماء الزائرين، والذين لا يتجاوز عددهم في الزيارة الواحدة أربعة أشخاص من بين أبويّ المعتقل وإخوته وزوجته ─ ترجّح المعلومات الواردة من أقارب السجناء أن سجن صيدنايا لا يضم أي نساء.
تستغرق عملية توقيع ورقة الزيارة من القاضي بضع ساعات، ليأخذ صاحب الطلب تلك الورقة بعدها إلى مبنى “الشرطة العسكرية” القريب من حي القابون الدمشقي. يقبع في سجن صيدنايا أشخاص من كل المحافظات، وليس فقط من المناطق القريبة، ما يضع على أهالي السجناء من المحافظات البعيدة عبئاً إضافياً.
تقول أم هادي، والدة أحد المعتقلين في صيدنايا، إنها عندما تتوجه إلى مقر “الشرطة العسكرية” تقطع مسافة حوالي كيلومتر سيراً على الأقدام بعد نزولها من “الميكروباص” لأنه من غير المسموح لأية وسيلة نقل الوصول إلى مدخل المبنى. هناك، تعطي ورقة الزيارة إلى المساعد ليوقعها من الضابط المسؤول.
تضيف أم هادي أن مدة الانتظار تتجاوز أحياناً خمس ساعات، وتترافق مع أصوات القصف والاشتباكات الدائرة في المناطق القريبة. سُجِّل سابقاً وصول شظايا قذائف إلى مكان الانتظار، وسقوط إصابات في صفوف المنتظرين من المدنيين. بعد الانتظار، تُوزّع الأوراق؛ يحمل بعضها موعد الزيارة التي قد تكون بعد يومين أو ثلاثة أو ربما شهر أو أكثر. أما الأوراق الباقية فيسلّمها المساعد إلى أصحابها وقد كتب عليها رفض الإذن بالزيارة، ويطلب منهم مراجعة أحد الأفرع الأمنية ليسأل عن المعتقل الذي يخصه، علّه يجده هناك.
ولكن لا يتفق جميع الأهالي على تفاصيل الإجراءات، ما يشير إلى غياب المعلومات الواضحة بشأنها.
أم راتب من داريا، لها أخان في سجن صيدنايا، اعتقلا بعد اندلاع الثورة السورية ببضعة أشهر بسبب نشاطهما السياسي. تقول أم راتب إنّ القوانين تتغيّر حسب “مزاج” السلطات، وتضيف أن مؤخراً “لم تعد توجد حاجة للذهاب إلى مركز “القضاء العسكري”، فعلى الزائر التوجه فوراً إلى “الشرطة العسكرية” ليقدم طلب الزيارة إلى مكتب الاستعلامات قبل الدخول إلى “المحكمة الميدانية””. إذا تمت الموافقة، يُسأل الزائر إن كان يريد إجراء الزيارة يوم الأحد أو الثلاثاء، وعلى المتقدم أن يعلم أن طلبات الزيارة تقدم في أيام الخميس أو السبت فقط.
يفشل الكثير من ذوي المعتقلين، بعد محاولات متكررة، في الحصول على ورقة الموافقة على الزيارة، ما يدفعهم إلى اللجوء إلى “الواسطة” عن طريق أحد الضباط أو ربما دفع مبلغ من المال.
تتابع أم راتب، قائلة: “بعد الحصول على الموافقة وتحديد موعد الزيارة لا يعود هناك حاجة للعودة إلى” الشرطة العسكرية” كما في السابق لوضع آخر توقيع، بل يمكن للزائر التوجه إلى السجن مباشرة”.
بعد كل هذه الإجراءات، تبدأ رحلة جديدة من المعاناة، فالطريق إلى سجن صيدنايا تنتشر عليها حواجز أمنية تختلف مدة الانتظار عندها من واحد إلى آخر. وبعد تجاوز كل تلك الحواجز، يضطر الزائر إلى الترجل على مسافة بعيدة عن باب السجن الرئيسي، ليتابع طريقه إلى الباب مشياً على الأقدام بسبب منع أي وسيلة نقل من الاقتراب.
يأخذ الحرّاس التصريح بالزيارة والأمتعة التي يحملها الزائر إلى المعتقل لتُفتش، وبعد مدة تتراوح بين ربع الساعة ونصف الساعة، يأتي باص يقل الزائرين إلى غرفة الانتظار. هناك، يُنادى على الزائر باسم السجين الذي أتى لرؤيته. يصل السجين مطأطأ الرأس محاطاً بعسكريين اثنين، وإذا تجرأ على رفع رأسه يلكمانه على مناطق متفرقة من جسمه.
مها زوجها معتقل منذ آب/ أغسطس 2011، وتمكنت حتى الآن من زيارته مرة واحدة فقط منذ حوالي السنتين. تقول مها: “كان يفصل بيني وبين زوجي شبكتان حديديتان بينهما ممر بعرض متر تقريباً، يقطعه سجان ذهاباً وإياباً عدة مرات، فتكاد ملامح زوجي تختفي”.
تتراوح مدة الزيارة بين ثلاث وخمس دقائق، ويُشترط ألا تتضمن غير الحديث عن صحة المعتقل وحالته التي لا يستطيع أن يصفها إلا بأنها على خير ما يرام.
تضيف مها: “قُطعت زيارتي لزوجي وطلب الضابط إلى السجان أخذه لأنني سألته إن كان أحد أقربائنا معه أو لا”.
منذ ذلك الحين، تتلقى مها الجواب نفسه في كل محاولة للحصول على إذن الزيارة: “زوجك ليس لدينا”.
هدى، وهي أخت معتقل يبلغ من العمر 24 عاماً سُجن في تموز/ يوليو 2011، تقول إن أخاها ضُرب أمامها على بطنه “ضربة كادت أن تقتلع أمعاءه”، وحرم بعدها من رؤيتها لأنه أخبرها أن صديقه معه في السجن ذاته.
علي معتقل سياسي سابق، تم توقيفه بسبب نشاطه في الثورة الحالية. رفض علي ذكر أي معلومة عن أسباب اعتقاله أو تاريخه المحدد سوى أنه بقي ستة أشهر في سجن “صيدنايا الموت”، على حد تعبيره. يقول علي إن المعتقلين قد يتعرضون للضرب المبرح في موعد الزيارة، من لحظة خروجهم من مهجعهم إلى مدخل صالة المقابلة. يدفع ذلك الكثير من المعتقلين إلى الطلب من أهاليهم عدم زيارتهم مرة أخرى كما حدث مع أم رامي التي طلب إليها أخاها عدم زيارته مرة ثانية مهما كانت الأسباب.
يغادر الزوار القاعة تاركين ما سمح بإدخاله من أمتعة لأقاربهم، ومبلغ من المال لا يتجاوز الخمسة آلاف ليرة سورية، وفقًا لقوانين السجن، التي تسمح للسجناء باستخدام هذا المبلغ لشراء مستحضرات النظافة فقط. ويخرج الأهالي من باب السجن بعد كل ذلك الترقب والانتظار ليحملوا في قلوبهم أضعاف مضاعفة من اللوعة على مصاب أحبتهم.
تقول مها: “كم تشاجرت مع زوجي قبل اعتقاله كي يخسر القليل من وزنه، ولكن عندما ذهبت ورأيته ندمت على تلك المشاجرات، لأني لم أكن أتخيل أن أراه شبيه الهكيل العظمي. فرجك يا رب”.