حين ارتفع الصوت في جامعة دمشق: سوريا بدها حرية

بعد كل ما رأيت وبعد كل ما سمعت، انتقلت لتأييد المعارضة لنظام بشار الأسد وأعوانه. حاولت بكل السبل أن أجد طريقة أنغمس فيها بالعمل الثوري، وكان أولها التظاهر ضد النظام الذي فاقت أفعاله كل حد. عائلتي رمادية صامتة حتى اليوم، تريد أن تعود أعمالها كسابق عهدها، ولا فرق إن كانوا في ظل النظام الأسدي أو نظام آخر.

 

تعرفت بالصدفة على شاب من بلدة قطنا التابعة لريف دمشق. وبدوره عرفني على شاب أستطيع التنسيق معه. لم تكن الثقة موجودةً بيننا، ولكني كنت أريد أن أفعل أي شيء أفرغ به غضبي مما رأيت وسمعت في الجامعة. أخبرني الشاب عن عملية نوعية، زرع “سبيكرات الحرية” (مسجل مع مكبرات للصوت) في عدة كليات وجامعات. كان من المفترض أن أزرع “السبيكر” في مبنى كلية الكيمياء،  بعد تشغيله في الثانية عشرة إلا عشر دقائق، أنزع غطاء اللاصق عنه. وألصق السبيكر في مكان محوريّ، لا تراني به كاميرات المراقبة . كان ذلك بتاريخ 17/11/2011

كانت تلك المهمة بمثابة تحد لذاتي. إذ بتنفيذ هذه المهمة أثبت نفسي في هذا الطريق الذي اخترته. طوال الليلة التي سبقت موعد التنفيذ لم أستطع النوم. درست كل الاحتمالات التي من الممكن أن تقع. كنت خائفة قليلاً، لكن ما كان يشغل بالي أكثر هو النتائج. كنت متفائلةً أن العملية ستنجح وأني لن أفشل ولن يُمسك بي.

في 17 نوفمبر/تشرين الثاني، توجهت عند الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً نحو المبنى. كان عليّ اختيار المكان بسرعة لتواجد عدد كبير من الطلاب ولعدم لفت الانتباه لتحركاتي. كنت قد تعرفت على فتاتين بنفس القسم الذي أدرس به. معارضتان لكنهما تخافان جداً. قررت أن أطلب منهما مساعدتي في تغطية ما سأفعل. كان موقع برّاد المياه في مكان استراتيجي، يمكنني من زرع “السبيكر” دون أن ينتبه لي أحد. فهو ملاصقة للنوافذ الجانبية للمبنى. تعمّدت أن أتوجه إلى البرّاد مع صديقتيّ. شربتا بينما شغّلت السبيكر (المسجل مع مكبر الصوت)، وألصقته على الجهة الخلفية للبرّاد مدّعيةً استعجالهما. ابتعدنا كليّةً عن البرّاد. وما هي إلا عشر دقائق فقط، حتى صدح صوته في البهو كله.

صديقتاي كانتا قد غادرتا والخوف يسحبهما بعيداً عنّي. أمّا أنا فكنت أتمشّى في البهو ذهاباً وإياباً، حتى يحين الموعد المتفق عليه. حملت جهازي الخليوي وشغّلت الكاميرا. انطلق الصوت في موعده، إبراهيم القاشوش بأهزوجته المشهورة “سورية بدها حرية”.

بدا الصوت غريباً بادئ ذي بدء. ثم بدأت التلفّتات تكثر لتتأكد من الصوت. علا الهتاف وصوت القاشوش، وكثر بذلك التخبط بين الطلاب. يبحثون بعيونهم عن مصدر الصوت. الأغلبية اعتقدوا أن مظاهرةً انطلقت من حرم الكلية، فالصوت قادم من ناحية النوافذ .

مرور بعض النساء قرب حواجز أقامها عناصر الجيش الحر لمنع تسلل الدخلاء. تصوير صلاح الأشقر

مجموعة من شبيحة اتحاد الطلبة تخطوا الرؤوس بنزولهم على الدرج كل عشر درجات سوية. انطلقوا خارج مبنى الكيمياء بحالة إنفعال واضحة. توترت الأجواء. فتاةٌ خائفة هربت بعيداً نحو الباب الخلفي للمبنى لتصل إلى بيتها بأمان. فتاتان قادمتان بلهفة،  لهفتهما فضحت نواياهما. فكانتا تبحثان عن الصوت للانضمام إليه. أما شبيحة الاتحاد فقد كانوا يبحثون في كل مكان. فلا وجود لمظاهرة. إذاً من أين يأتي الصوت ؟ شخصٌ ما أدرك مكان الصوت. فتح غطاء البرّاد العلوي علّ الصوت من داخله، لكنه لم يجد شيئاً.

بعد دقائق، وكانت كفيلة بتسجيلي كل ما يحصل عن طريق كاميرتي التي أحملها دون أن أثير انتباه أحدٍ إليّ. وصل أحدهم إلى مكان السبيكر. نزعه وأطفأه ثم سحقه تحت قدميه. والسّب والشتم لم يفارقا لسانه. كان الهرج والمرج على أشده.

 

أما أنا فقد انطلقت خارج المبنى، نحو محاضرتي التي تنتظرني، وأغلقت كاميرتي. انتهت المحاضرة وتوجهت خارج الجامعة. اتصلت بالشاب صاحب فكرة العملية النوعية ،وأخبرني أن العملية في كليات الحقوق والهندسة والاقتصاد قد فشلت. فأنبأته بالخبر السار، جاء إليّ متلهفاً. أريته الفيديو، قبل أن أرسل إليه نسخة وكنت سعيدةً بما أكرمني الله بتحقيقه. ثم رحل عني دون أن أراه بعد ذلك في أي مكان حتى هذه اللحظة.

 

مساءً وجدت الفيديو قد تم تحميله على اليوتيوب، وصفحات التواصل والأخبار تتناقله بسرعة و حيوية. فرحت و أغلقت جهاز الكمبيوتر المحمول، وتوجهت نحو غرفتي أحلم وأخطط لعمليات مقبلة .

 

ياسمين الشامية (25 عاماً) خريجة جامعة دمشق، تقيم حالياً في غازي عنتاب في تركيا.