“حرائر انخل”… نساء… في زمن الثورة

بقلم: سارة السورية

اليوم، في سوريا كما في العالم العربي، نقف في وسط الزوبعة، نساءً ورجالاً، حيث تفاجأنا بهشاشة “النسويّة” في سوريا، وكم هي غلافٌ يلمع ولكنه فارغ. إذ وبعد عام وشهرين تقريباً على اندلاع الثورة السورية لا تزال المرأة السورية غير قادرة على انتاج خطابها السياسي – الاجتماعي الخاص بها؛ لا يزال وجودها “كوتا” شكلية في التجمعات السياسية، حيث يحرص كل تجمّع على إبراز سيدة أو اثنتين هرباً من سؤال باهت يقول: اين المرأة في تجمعكم وهي نصف المجتمع؟!! لكن في ظل هذا المجتمع، حقائق أخرى، قلما يتنبه لها مدّعو النسوية ودعاتها.

في سجن “عدرا” للنساء التقيت بمعتقلات سياسيات من منطقة “إنخل” في درعا. لا أعتقد أنّ أياً منهنّ قد سمعت يوماً بكلمة “النسوية”، ولم يعنها يوماً كل التاريخ الشفوي والكتابي والمحافلي للمتحاربين حول قضية المرأة. نساء متحرّرات من ثقل الكلمات الكبيرة وحلم “النضال السياسي”. نساء من مدينة تشتهر بالزراعة، ولديهن أرض خضراء، واليوم هن فقيرات. نساء أشجع من العديد من نشطاء الحراك الثوري في سوريا، رجالاً ونساءً، ينظرن في العين بقوّة تهزّ الجسور ويقلن: “أنا قمت بهذا، ولا علاقة لأي أحد آخر بالأمر.” قُلنها في التحقيق، قُلنها مع بعضهن، وقلنها في الخفاء عن بعضهّن.

لم تكتب أي من الفتيات الثلاث مقالةً في حياتها، والمتعلمة بينهنّ تعمل في التمريض بعد أن تابعت دورة. الاثنتان الأخريان توقف تعليمهن في الصف التاسع الإعدادي. لكن كل واحدة منهنّ تصلح تعريفاً حقيقياً لحالة المرأة، ولديها إدراكها الفطري والعميق لدورها في الثورة، كأم وأخت وزوجة، وقبل كل هذا كمواطنة. الأولى أخفت عن والدتها نشاطها، والثانية أخفته عن خطيبها الذي ثار لدى معرفته بتوقيفها، والثالثة رفضت الاتصال بخطيبها الذي كان موقفه سلبياً من اعتقالها حتى عاد ووقف إلى جانبها ووعدها بأنّه يوم تخرج من السجن سوف يتزوجان.

نظرت إلى “حرائر أنخل” بكل خجل، وشريط من النسويات اللواتي التقيت قبل دخولي سجن عدرا يمر في ذهني. نسويات كتبن عن المرأة، اشتُهرن كمناضلات من أجل المرأة، سافرنَ للحديث عن نضال المرأة السورية وواقعها ومعاناتها، والجميع يعرفهنّ ويفتخر بهنّ، لكن كل هذا لم يمنعهنّ من ممارسة مختلف اشكال الإساءة التي تمارسها المرأة بحق المرأة كما يحلو للناشطات التوصيف. تعاملن بفوقية إنسانية وثقافية ومعرفية وحتى اجتماعية طبقية في حالات عديدة. رفضنَ الرجل واعتبرنَه عدوهنّ الأوّل، حتى انعكس الأمر في غضبٍ من ذواتهنّ كنساء، وكأنّ الجمال أو الأناقة أو اللطافة أو الاعتناء بالمنزل ونظافته دلائل نقصٍ في تطوّر وعي الشابة السورية، وعلائم انحدارٍ إلى مصاف الرجعية حيث كان الجد يُهين الجدة ويضربها.

“حرائر أنخل” يعتنين بجمالهنّ قدر المتاح في مهجع الإعتقال، يُجرّبنَ في الطبخ، يفكرنَ في الأحداث التي عرفتها البلاد خلال عام عُشنَه ويُنتجنَ خطابهنّ السياسي الخاص. في الوقت الذي تتابع فيه العديد من الناشطات خارج أسوار السجن دعوة المرأة السورية إلى توحيد الصف ورص البنيان لمقاومة الحضور الذكوري الكاسح في الثورة، يا للعجب!! “حرائر أنخل” يفخرنَ بـ “الشهادة” ويعتبرنَ أنّ من ينالها قد نالها عن جدارةٍ واستحقاق خصه بهما ربّ العالمين، والناشطات في الخارج يتحدثنّ عن السفر إلى الخارج، عن هذا المؤتمر أو ذاك، وعن هذا التجمّع أو ذاك. “حرائر أنخل” يبتلعنَ الدمعة، ودمع العين خائن، حين يتحدثنَ عن آخر حمام حممته الأم لابنتها، وعن حلم الزفاف، وعن عشقٍ عذري تتوج بكيلو من الحلو العربي وافقت إدارة السجن على إدخاله وقد صنعه الخطيب بيديه. في حياة “حرائر أنخل” هذه الأحاديث هي الخائنة حين تهرب من شفاههنّ، إذ لا تعرف الحرائر الشكوى أو الندب. يُفكرنَ في الحراك الذي غبنَ عنه، وما كان يمكن أن يكون.

“حرائر أنخل” لم يسألننا عن وضعنا المادي بل أغدقن علينا الخضار والفواكه وأشياءهنّ البسيطة. “حرائر أنخل” يُثرنَ جدالاً لأكثر من ساعتين في كل مرّة حاولنا بها أن ندفع ثمن شيء مشترك لنا ولهم من الطعام. “حرائر أنخل” لا يعرفنَ “الفيسبوك” أو “تويتر” لكنهنّ يكتفين بالابتسام ونظرة الاستخفاف لدى أحاديثنا عن صفحات “الفيسبوك” وتعليقات الناشطين.

إلى “حرائر أنخل” وكلّ نساء درعا، داريا، حمص، حماة، ومدننا المنكوبة، بكنّ تُبنى سوريا الجديدة، حيث دولة المواطنة، وحيث أننا نساء حقيقيات، أمهات وزوجات، جميلات وقادرات على العيش في الحرب والسلم، قادرات على إعادة قراءة تاريخنا بأكمله سياسياً ودينياً وثقافياً، ومنه سوف ننتج خطابنا الخاص المتحرّر من أثقال التنظير النسوي المُستورد. وعليه: شكراً لكُنّ… والحرية لحرائر أنخل… ولجميع المعتَقلاتْ والمعتقلين، خاصّة من لا تتسع نشرات الأخبار لأسمائهن أو أسمائهم.

*حرائر انخل: أسماء الفراج، صابرين وآيات الرمان، اعتقلن بتاريخ 25-2-2012 لنشاطهن في الثورة.