حرائر إدلب المدينة

أذكر تماماً حين تمكّن الحراك الثوري من تحرير أغلب أحياء مدينة إدلب.  لم يبق سوى المربع الأمني الوحيد الذي كانت تسيطر عليه قوات النظام. كانت الحواجز منتشرة بكثرة والتفتيش والتدقيق يطال كل عابر سبيل. وكانت حرائرنا (تسمية تطلق على النساء المحجبات) صلة الوصل بين الأحياء المحررة والتي تحت سيطرة النظام. جهاز الثريا يجب أن يصل الى أحدهم، المبلغ المالي لشخص آخر، هذه وغيرها من المهمات التي كانت الحرائر يقمن بها.

كنّ يجمعن الألبسة والأحذية، ولا يتوانين عن فعل أي شيء لخدمة الثوار. وأهم من ذلك كله تجهيز الطعام لهم. ما كنّ يبخلن بأي جهد من أجل أن يؤمّنّ لهم مايشتهون من أطعمة. فكل واحد منهم قد ترك بيته وأهله ومن المؤكد أنه يشتهي طعام أمّه.

الحرائر كنّ يجتمعن في بيت إحداهن، حيث تكون قد جهّزت كل ماتحتاج اليه طبخة اليوم. كنّ يجتمعن والفرح والسرور يخيم على جلساتهن. يبدأن بالأدعية وقراءة القرآن على نيّة التيسير وحفظ الثوار، ثم يجلسن حول طاولة العمل لتبدأ الأغاني القديمة والأغاني الثورية وأي شيء تجود به قريحتهن من أشعار وتهاليل وزلاغيط.  

أطفال يلهون قرب أحد السواتر اللتي تحجب الرؤية عن قناص تابع للنظام السوري في حي بستان القصر في حلب. تصوير صلاح الأشقر

أذكر يوم 28 شباط/فبراير 2012، كان الاجتماع ببيت أمّ الغيث. حينها كن يجتمعن على لف ورق العنب. كان عددهن أكثر من 15 صبية. منهمكات بتحضير الأرزّ، وسلق ورق العنب، أو غسل قديد القرع والباذنجان. أمّ بيان كانت المشرفة الرئيسية على المشروع، وهي التي توزع المهام. أمّا أمّ رند فكانت مهمتها تجميع ورق العنب الملفوف، تربيطه في مجموعات ليسهل على الشباب سكبه. لقد كان عرسا حقيقياً.

بعد الانتهاء من مهمة الطبخ تأتي المهمة الأصعب؟ إيصال الطعام المطهو للثوار في البراري والمزارع المجاورة للمدينة. أمّ راية، أمّ أحمد، أمّ ابراهيم، أمّ مصطفى، وكلّ من تملك سيارة كانت تقوم بهذه المهمة الممتعة. طبعا مع المرافقة من أجل الأخذ والرد مع عناصر الحواجز.

بقيت الحال هكذا حتى اجتاح جيش النظام كامل المدينة في شهر آذار/مارس 2012، وتشدّد الحواجز العسكرية مع الحرائر ما أحال مهتمهن أكثر صعوبة وأشد مخاطرة.

أمّ عبد الرحمن كانت ترافق إحدى الحرائر بسيارتها لتوزيع ما يتيسر من ألبسة وأطعمة ونقود لذوي الشهداء والمعتقلين. كانتا تنجوان بأعجوبة من الحواجز. يعرفهما أولاد المعتقلين والشهداء، كان الأطفال ينتظروهما على الموعد. وما إن يرون السيارة حتى يتوافدون إليهما طمعاً بعلبة ألوان أو قطعة سكاكر أو لعبة لصغير يلهو بها.  في البيوت كانت النساء تحتفي بهما بوجه بشوش وطلبات لاتنتهي. كانتا تبتسمان لهن مع وعد صادق بتحقيق ما يرغبن. هاتان السيدتان لم تخرجا من المدينة، بقيتا تمارسان عملهما رغم التهديدات ورغم الشبيحات ورغم استدعائهما لأفرع الأمن للتحقيق معهما.

في 24 آذار/مارس 2015، تم تحرير مدينة إدلب ودخل جيش الفتح منتصراً. بدأ طيران النظام يقصف بيوت المدنيين بحقد وجنون، مما اضطر معظم السكان للرحيل إلى الريف المحرر.

تعرّض بيت أمّ عبد الرحمن للقصف، وبقدرة الله نجت مع عائلتها لتنتقل للعيش قي إحدى القرى القريبة. على أمل العودة، فهناك الكثير من الأرامل والأطفال بانتظار زيارتها. أمّا أمّ عبد الله والتي استشهد ابنها الوحيد في إحدى معارك الشرف، واعتقل النظام زوجها لوقت طويل، فقد اختارت الهجرة مع بناتها. ماعادت قادرة على مواجهة ظروف الحياه الصعبة هنا لوحدها. لا معيل ولاعمل ولا مورد رق. كان زادها إيمانها الذي تستمد منه صبر أيوب، لتستطيع أن تبعث في نفوس بناتها أملاً بغدٍ أفضل. ما يدفعهن للاستمرار في الدراسة والحياة.

 

بهجة معلم (22 سنة)من مدينة إدلب،كانت تشارك بالمظاهرات وتصورها وتنشرها على اليوتيوب،وتقود المظاهرات النسائية. اعتقلت مع أخيها وأبيها ليومين.تركت دراستها في العلوم السياسية ولجأت مع أهلها إلى تركيا.

بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي