حتى في سوريا قد تتحقق الأحلام

أختي مها، و هي الأصغر في أسرتنا، مدِرسة لغة انكليزية. كان قد تجاوز عمرها آنذاك الثلاثين، وبدأت تفقد الأمل بالزواج، لذلك قررت ان تعيش سعيدة، وبدأت تحلم بشراء سيارة، ولم تستطع. في عام 2005 كانت قد جمعت مبلغاً كافياً لذلك، ولكن للأسف حذّرها الأصدقاء والأقرباء من أن راتبها لن يكفي تكاليف البنزين والتصليحات اللاحقة. و بأن السيارة ستكون عبئا مادياً ثقيلاً عليها، اقتنعت و فقدت الأمل بتحقيق حلمها الثاني.
في عام 2006 تزوجت مها من رجل ثري وكريم، وأهداها سيارة في اليوم الثاني من زواجها، وكانت فرحتها لا توصف وفرحنا معها جميعاً. حيث أنها حقّقت حلميها.
كانت هذه السيارة تعبر عن شخصية مها، فالباكاج فيه عدة الرحلات والطبلة والمسجلة، فيها تشكيلة من الأغاني الموسيقية المتنوعة، تبدأ بخوليو وتنتهي بسارية السواس (مطربة شعبية تمثل الفن الهابط)، مروراً بعبد الحليم حافظ، وماجدة الرومي. وهكذا كانت مها سعيدة بزواجها وسيارتها ثم بطفلتها التي انجبتها عام 2007.
وجاء عام 2011 حاملا معه نسائم الربيع العربي. بدأت المظاهرات في مدينة ادلب، وكانت مها من أول المتظاهرات. استبدلت الطبلة وعدة الرحلات بزجاجات الماء وعلب الحلوى وقطع السكر التي كانت توزعها على المتظاهرين. وفي اكثر الاحيان كنت أرافقها، اتأمل المتظاهرين، أصواتهم، أعدادهم الكبيرة، سلميتهم، لافتاتهم وأناشيدهم، كان هدفهم واحد يصرخون به بملء حناجرهم ” الشعب يريد اسقاط النظام”.

امرأة تمشي في حي الأنصاري الشرقي المهدم. تصوير حسام كويفاتية

كانت المظاهرات تأخذ ترتيباً معيناً، حيث تبدأ بالدراجات النارية في الامام لاستكشاف الطريق، ثم الرجال والشباب، والنساء يكن في المؤخرة وذلك لحمايتهن. اما السيارات فكانت توزع على جانبي المظاهرة للحماية، فإذا بدأ اطلاق الغازات المسيلة للدموع والرصاص، سارعت السيارات لنقل الجرحى وتهريب المتظاهرين بعيداً عن الخطر وفي مقدمتهم سيارة زرقاء صغيرة تقودها مها التي اصبح لقبها في ما بعد بـ “إم السيارة الزرقا”.
في أحد الايام اضطر زوجها ان يستخدم سيارتها، وعندما عاد قال لها فخورا وضاحكاً “كثير من الشباب المتظاهرين الذين لا أعرفهم استوقفوني وقالوا لي الله يخليلك هالمرة أخت رجال، لقد ميزوني من سيارتك الزرقاء”.
في الشهر العاشر او الحادي عشر بدأت مظاهر التسلح تتكشف وتظهر، وأعداد الشهداء والمعتقلين تزداد، فتطوعت مع مها وعدة من الصديقات في تشكيل مجموعة لزيارة عائلات الشهداء والمعتقلين، وتقديم المساعدات قدر الامكان، حيث كنا نعتمد على أقاربنا وأصدقائنا في ما يتعلق بالتمويل، وخصوصا من هم في المغترب ويؤيدون الثورة ويدعمونها. كنا نسعد بثقتهم وبدعمهم لنا، وتولد لدينا شعور بأننا لسنا وحدنا في مواجهة النظام، وبأن كل سوري مؤمن بالثورة سيبحث عن طريق لدعمها، كنا نحس لأول مرة أن الشعب السوري واحد موحد، كان ذلك يحصل بسرية تامة، خوفاً من الاعتقال.
في رأس السنة الميلادية عام 2011-2012 قرر الثوار الاحتفال بهذا العيد تضامنا مع اخوتنا في الطائفة المسيحية، فزينوا ساحة الساعة بالأجراس والأشجار المضيئة، لبس بعض الثوار ثياب بابا نويل، وألقى احد الشباب المسيحيين كلمة مغزاها بأنه لا يمكن للنظام ولا غيره أن يغير ما بنيناه من علاقات اخوة وصداقة في ما بيننا، فصفقنا له، زغردنا، وهتفنا: “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”.
ولبست راية، ابنة مها، ثياب بابا نويل، ووزعت الشوكولا على الجميع، حملها الشباب المتظاهرون على اكتافهم وهي تهتف “الشعب يريد إسقاط النظام”، ماذا يسعني أن أقول غير فرخ البط عوام.
كنا سعيدين متفائلين، تصريحات المجتمع الدولي كانت تؤكد بأنه على (الرئيس) بشار الأسد ان يرحل، وموقف الجامعة العربية بأن يتولى فاروق الشرع الرئاسة المؤقتة. كانت الإشارات تبعث على الأمل بأن هذا النظام سينتهي قريباً. ولكن في 10 آذار/مارس 2012، اقتحم جيش النظام مدينة إدلب، الجيش الحر حينها لم يستطع أن يصمد امام هذه الحشود الكبيرة. وبالتالي سيطر جيش النظام على مدينة إدلب، واحكم قبضته على المدينة، وسكتت المظاهرات، سكتنا، وسكتت مها. كنا خائفين ومعنوياتنا كانت بالحضيض، لم يكن لدينا حينها أي امل سوى بالله لينقذنا وينتقم لشهدائنا.
في 4 تشرين الثاني 2012، أوقف مها حاجز للأمن العسكري واعتقلها، كان ذلك في الساعة الثانية ظهرا، اصطحبني ابن عمي لمقابلة أحد المسؤولين في أحد الأفرع الأمنية، هناك في مكتبه سمعته يتحدث مع رئيس فرع الأمن العسكري قائلا له “هذه السيدة من عائلة كبيرة ومعروفة ياسيادة العميد. والله بيت السيد عيسى ما رح ينامو وعندهم امرأة في المعتقل. لا تفتحو علينا هالباب اليوم لازم تنام ببيتها”. وفعلاً في الساعة التاسعة مساء أفرجوا عنها درءاً لفتنة مع الأهالي.
في التحقيق معها سألوها عني كثيراً، لذلك في صباح اليوم التالي سافرنا الى اللاذقية، واستقرينا هناك لفترة، نقلنا وظائفنا، وشاء الحظ ان يتم تعييني في ثانوية تقع في حي الزراعة المعروف بموالاته الشديدة للأسد، أما هي فتعينت بمدرسة في حي الرمل المعارض وما زال مكتوبا على جدرانها “حرية … حرية”.
غادة السيد عيسى (59 عاماً) من ادلب، تقيم حالياً في غازي عنتاب في تركيا. تخرجت من جامعة حلب كلية العلوم قسم الفيزياء و الكيمياء. أم لابنة واحدة.