جبهة النصرة أحد وجوه القاعدة في سوريا
الإسلام الجهادي بات من المعالم الأساسيّة للنزاع الدائر في سوريا. ومن اللافت ما يجري اليوم من خلافات واقتتال بين تنظيمات جهادية مختلفة على الأرض السورية، حيث يخوض عدد من التنظيمات الجهاديّة، على رأسها “الجبهة الإسلامية” و”جيش المجاهدين” معارك ضارية لتصفية تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، أو ما يعرف اختصاراً بـ”داعش”، والتي تُعدّ امتداداً لتنظيم القاعدة في العراق. ولكن هذه ليست المرة الأولى التي تشهد فيها سوريا صعوداً للظاهرة الجهادية، فقد حصل ذلك قبل نصف قرن.
بدأ “الجهاد السوري” عام 1964، فبعد عام من وصول البعث إلى السلطة وقعت اضطرابات مناهضة للنظام، سرعان ما تحوّلت في حماه إلى جهاد ديني مسلّح، إذ صنّف الإخوان المسلمون حكم “البعث” على أنه كافر واعتبروا القضاء عليه تكليف شرعي للمسلمين. قاد التحرّك مروان حديد، الذي درس في مصر وكان مقرّباً إلى سيد قطب أول منظّري الحركات الجهادية، قبل عودته إلى سوريا عام 1962 حيث أنشأ حديد خلايا إسلاميّة في حماه، لتطبيق أفكار قطب ومنطقه الجهادي، وهو المنطق الذي يقول بأن يعدّ الإسلاميون ما استطاعوا من قوة فالجهاد هو السبيل لإقامة نظام حكم إسلامي.
أنهت السلطة التمرد، لكن الإسلاميين عاودوا نشاطهم الجهادي أواخر السبعينات بسلسلة اغتيالات وتفجيرات في مختلف المدن السوريّة. وأعلن الإخوان المسلمون عام 1980 قيام «الجبهة الإسلامية لإنقاذ سوريا» وفتحوا باب «التطوّع للجهاد في سوريا» لاستقطاب المقاتلين من أنحاء العالم. وأصدروا بيان «الثورة الإسلامية في سوريا ومنهاجها». ومرّة أخرى سُحق التمرّد الإسلامي بالقوّة وكانت فرصة للنظام للقضاء على كافّة أشكال المعارضة السياسيّة.
اليوم، تعدّدت الجماعات الإسلامية المقاتلة في سوريا وليس من السهل حصرها، لكنّ أول التعبيرات عن هذا التوجّه في سياق النزاع الراهن كان “جبهة النصرة لأهل الشام”، التي تطوي عامها الثاني هذه الأيام.
في 24 كانون الثاني/ يناير 2012 تناقلت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تسجيلاً مصوّراً، أعلن فيه أبو محمد الجولاني الملقّب بـ”الفاتح”، والقادم من “إحدى ساحات الجهاد” عن تشكيل “جبهة النصرة لأهل الشام من مجاهدي الشام”. بثّت التسجيل “مؤسسة المنارة البيضاء للإنتاج الإعلامي” التابعة للجبهة، وبعض المواقع الجهاديّة المعروفة، كـ”شموخ الإسلام” المرتبط بتنظيم القاعدة. حمل التسجيل عنوان “شام الجهاد”، وفيه دعا الجولاني السوريين إلى الجهاد وحمل السلاح في وجه النظام السوري، مؤكّداً أن الجبهة لم تظهر إلا “لإعادة سلطان الله إلى أرضه”.
بداية لم يلق التسجيل اهتماماً في أوساط المعارضين، للحفاظ على الوجه السلمي المدني لحراكهم، متجاهلين تلك “اللغة الجهادية” التي بدأ تداولها. فأكّدوا على شعارات الحرية والكرامة ونبذ الطائفية، ورفض المصطلحات الإسلامية والطائفية. ولكن سرعان ما أثارت الجبهة جدلاً واسعاً حول هويتها وحقيقة ارتباطاتها، تباينت الآراء حولها لدرجة التشكيك في وجودها من الأساس، واعتبارها “اختراع افتراضيّ”. وأبدت أصوات إسلامية و”جهاديّة” كالشيخ أبو بصير الطرطوسي، وهو منظر سلفي سوري بارز، شكوكاً تجاه الجبهة ولم تستبعد أن يكون النظام هو من يقف وراء تشكيلها.
بعد ذلك شهدت حلب، في 10 شباط/ فبراير 2012، هجمات انتحاريّة استهدفت مقرّات أمنية، وبعد أسبوعين أعلنت “النصرة” مسؤوليتها عن العملية في ثاني بياناتها، عبر منبرها “المنارة البيضاء”، في 26 شباط/ فبراير 2012، تحت عنوان “غزوة الثأر لحرائر الشام”.
ومع توالي العمليات ضدّ أهداف حيوية للنظام كالمقارّ الأمنية والعسكريّة في قلب العاصمة دمشق غيرها من المحافظات وتبنّي النصرة إياها، بدا أنّها القوّة المسلّحة الرئيسيّة في مواجهة النظام، لاسيما وأنّ ظاهرة العسكرة تبلورت وغدت أمراً واقعاً طغى على الحراك السلمي. وبدأ نفوذها يزداد، خاصّة مع جنوح أعداد متزايدة من المحتجّين إلى العمل المسلّح والخطاب الديني.
أظهرت الجبهة في وقت قياسي قدراً كبيراً من الفاعليّة الميدانيّة والقدرات الهائلة التنظيمية واللوجستية، وطغى حضورها في بعض مناطق عملها على “الجيش الحر”، رغم أسبقيّة تشكيله وتبنّيه من قبل المعارضة والدول المساندة لها وتلقّيه الدعم منها. وركّزت عمليات “جبهة النصرة” على حصار القطعات العسكرية النظامية، ثم مهاجمتها والاستيلاء عليها لتحقيق الاكتفاء الذاتي بالأسلحة والذخائر دون الاعتماد على مصادر تسليح خارجية فقط، كحال “الجيش الحر”، إضافة إلى السيطرة على طرق الإمداد للضغط على باقي الكتائب المقاتلة واجتذابها.
عكَسَ ذلك تراكم خبرات “جهاديّة” عمليّة، وكثر الحديث عن الجبهة بوصفها امتداداً للقاعدة في العراق، أو أنّها تتلقّى دعماً مباشراً منها على أقل تقدير. وبحسب معهد “كويليام”، وهو مؤسسة بحثية بريطانية تعنى بإعداد دراسات لمحاربة التطرف، فإن “ما يقدر بنحو خمسة آلاف عنصر من عناصر الجبهة كانوا في الأصل ينتمون لشبكة أبو مصعب الزرقاوي والتي يتزعمّها حاليّاً أبو بكر البغدادي”.
ولم تختلف أساليب عمليات “النصرة” عن تنظيم “القاعدة” في العراق، المعروف باسم “دولة العراق الإسلامية”؛ عبوات ناسفة تستهدف عربات عسكرية، سيارات مفخخة يقودها انتحاريون. حتى تصوير العمليات والبيانات المصورة، والآيات القرآنية أو الأناشيد الدينية المرافقة، لم يختلف لدى إعلام النصرة عنه لدى قاعدة العراق. ومع ازدياد المؤشرات على ارتباط النصرة بالقاعدة، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكيّة إدراجها على لائحة المنظمات الإرهابيّة، في كانون الأول/ ديسمبر 2012، فتوجّه “الجولاني” بخطاب “لأهل الشام والمجاهدين” يحذّرهم من استبدال النظام السوري بنظام غربي، ويؤكّد أن “لا يقطفنّ ثمار الثورة غير زارعيها”.
ومع سعيها لفرض نموذجها الديني المتشدّد في بعض المناطق، لاقت الجبهة رفضاً شعبيّاً من عدة مجتمعات محليّة، على الرغم من توزيع المواد التموينية وتقديم الخدمات مثل إصلاح شبكات الكهرباء والمياه. فوقعت صدامات في حي بستان القصر بحلب بين المتظاهرين والجبهة، في كانون الأول/ ديسمبر 2012. وكذلك في سراقب، في شباط/ فبراير 2013، كما في مناطق ريف إدلب وغوطة دمشق والرقة.
في 9 نيسان/ أبريل 2013، وقع تطوّر هام غيّر مسار “جبهة النصرة” وأعاد ترتيب المشهد الجهادي/ القاعدي في سوريا. فقد أصدر “أمير دولة العراق الإسلامية” أبو بكر البغدادي بياناً جاء فيه: “آن الأوان لنعلن أمام أهل الشام والعالم بأسره، أن جبهة النصرة ما هي إلا إمتداد لدولة العراق الإسلامية، وجزء منها. قرّر البغدادي توحيد الجماعتين في تنظيم واحد بزعامته، تحت اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
رفض “زعيم النصرة” قرار البغدادي ونفى أن يكون على علمٍ به، أو أنّ أحداً استشاره. ورداً عليه، أعلن الجولاني في اليوم التالي ولاءه لزعيم القاعدة، أيمن الظواهري، ووصفه بـ”شيخ الجهاد”، وبايعه “على السمع والطاعة”، وأصرّ أن رجاله سيواصلون القتال تحت راية “جبهة النصرة”. وبقي معظم السوريين من أعضاء التنظيم موالين له لكنّ معظم مقاتليه الأجانب بايعوا البغدادي.
اضطرّ الظواهري، للتدخل برسالة منه لإنهاء الخلاف، فقرر إلغاء “الدولة الإسلامية في العراق والشام” على أن يستمر العمل بـ”دولة العراق الإسلامية”، وأن تكون “جبهة النصرة” “فرعاً مستقلاً لجماعة قاعدة الجهاد يتبع القيادة العامة”. وأمر المجموعتين بالكف “عن أي اعتداء بالقول أو بالفعل ضد الطرف الآخر”، وبتقديم الدعم بشكل متبادل. كما وجه انتقادا للبغدادي والجولاني لأنهما أخطأا بعدم الرجوع إليه.
عمّقت رسالة الظوهري الخلاف، فمضى البغدادي في مشروعه، وقام مساعده أبو محمد العدناني، المتحدث باسم “الدولة الإسلامية”، بالرد على الظواهري، في رسالة بعنوان “فذرهم وما يفترون”، نشرت بتاريخ 20 حزيران/ يونيو 2013، فوصف اجتهاد الظواهري بأنه “خاطئ ومؤدٍ للفتنة ويفرّق الجماعة الواحدة”. واتهمه بـ”تكريس حدود سايكس بيكو”، واعتبر من أبقى بيعته للجولاني في حكم “العصاة المنشقين” على صاحب الولاية.
تتم ترجمة فكر القاعدة في سوريا اليوم عبر فصيلين متنازعين، أحدهما “الدولة الإسلامية في العراق والشام” بزعامة البغدادي، ويقود الجولاني الفصيل الآخر “جبهة النصرة”. قد يكون للمواجهة التي تفجرت في بداية كانون الثاني/ يناير بين “داعش” ومختلف التنظيمات الإسلامية الأخرى تأثير كبير على تقرير من يحتكر تمثيل “القاعدة” في سوريا.