جبر الضرر لتعويض الأيتام في سوريا
على مقاعد الدراسة في مدرسة السلطان عبد الحميد
لم تستطيع ألوان الزهور التي غرسها بيديه الصغيرتين أن ترسم ابتسامة على وجهه أو تبعث السرور في قلبه.حديقة دار الأيتام، الذي بات مسكنه الجديد وعائلته، يعمل مصعب على تحويلها إلى لوحة شبيهة بحديقة منزله الذي دمره صاروخ ألقته الطائرات الحربية.
مصعب (13 سنة) واحد من عشرات آلاف الأطفال السوريين الذين فقدوا آباءهم نتيجة الحرب الدائرة في سوريا. عندما كان في السابعة من عمره قصفت الطائرات قريته في ريف حماة الغربي، راح والده ضحية القصف ومعه المنزل.
انقلبت حياة مصعب كما آلاف الأطفال السوريين الذين يتمتهم الحرب، وغيّرت تفاصيل كثيرة في حياتهم.
يقول مصعب: “كان أبي يوقظنا كل صباح ورائحة الحليب والفطائر التي أعدّها هو وأمي تملأ المكان، ويبدآن بإطعامنا أنا وأختي الصغيرة”.
وتتسلسل ابتسامة لطيفة على محياه وهو يتابع حديثه: “أختي لم تكن تشرب الحليب بمفردها، كانت فقط تمسك بالكوب، في مشهد يجعلنا نضحك، كانت ضحكاتنا تملأ البيت. كانت حياتنا سعيدة، في كل يوم كان أبي يذهب إلى عمله، وأنا وأختي إلى المدرسة والروضة، وأمي إلى عملها في المدرسة، ونعود لنجتمع، وقد عاد أبي يحمل بيده الحلوى والألعاب”.
“أنتم أغلا ما في حياتي، أنسى كل تعبي عندما أراكم… حين كانت أمي تسمع كلام أبي هذا كانت تغار وتسأله أنا شو؟ ويرد عليها بالقول: أنتِ روحي، أنتِ روحنا كلنا. وفجأة انتهى كل شيء، والدي استشهد ومنزلنا تدمر، وفقدت كل الأشياء الحلوة. أعيش الآن في مكان فيه كل شيء محسوب ومقيد بمواعيد وأوامر وتوجيهات، هذا ليس عالمي. لا أعرفه وفُرض عليّ وعلى أمي وأختي”.
لا يحب مصعب أن يذكّره أحد بيتمه. أو أن يعامله على أنه يستحق الصدقة والشفقة. “في المدرسة يميزونني بأني ابن دار الأيتام، صحيح أنا يتيم ولكن لا أحب شعور الشفقة من قبل الآخرين”.باتت صفة يتيم تلازمني وتعيش معي، وتسبب لي الإحساس بالنقص، أريد أن أعيش مع أمي وأختي حياة طبيعية، ننام ونصحوا ونخرج بحرية.. لا أريد أن تقتحم كلمة يتيم كل تفصيل من تفاصيل حياتي.. ما ذنبي أنا وأختي ليحدث لنا كل هذا؟!”
لا تتوقف معاناة مصعب عند إلى هذا الحد، فالدار التي يسكن فيها، كما أغلب دور الأيتام في الريحانية والجنوب التركي، توفر سكناً مشتركاً للأسر، وتلزم الفتيان الذكور بعد سن الثانية عشر بالانفصال عن أسرهم والعيش بمهاجع خاصة، منعاً للاختلاط وفقاً لرؤية دينية محافظة وتقليدية.
وعن هذا الأمر يقول مصعب: “المصيبة والمشكلة الكبيرة، هي أنهم يريدون فصلي عن أمي.. يقولون أني سأصبح رجلاً ولا يجوز أن تنكشف النساء الأخريات أمامي”.
الإحساس بالمرارة من واقع ما يعيشه مصعب وخوفه مما ينتظره في المستقبل، لم يمنعه من التفكير بحقوقه والعدالة: “لن أستطيع تقبل الحياة مستقبلاً في سوريا من دون أن آخذ حقي، حقي عن العذاب مما أنا فيه الآن، وعن تدمير حياتنا، وعن مقتل أبي”.
يحلم مصعب بالحصول على “مصباح علاء الدين السحري”، ليساعد كل الأيتام لكي يعيشوا حياة طبيعية، وإخراجهم من واقعهم القاسي، حيث يعيش آلاف الأطفال والنساء من دون أمل في المستقبل مع غياب الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
لم تعش أم مصعب ألم فقدان زوجها فحسب، فهي الآن في صراع يومي لإضفاء قطرات من السعادة على حياة مصعب وأخته. وتقول أم مصعب: “أحاول جاهدة وبكل طاقتي ألاّ أحرم طفليّ من الحنان وأن أعوّضهما عن حنان الأب، ولكنني أفشل في تعويضهما عما حرمتهما الحرب منه”.
كثير من الأمور فرضتها الحياة الجديدة، اللجوء والعيش بدار مشتركة لدار الأيتام، وتتابع أم مصعب: “كل يوم نفقد كرامتنا وإنسانيتنا، وتلجأ بعض السيدات (الأرامل) للزواج من أجل الخلاص والخروج من دور الأيتام، ولكن هذه الجيزات تبوء بالفشل عادةً”.
وتستطرد الأم في حديثها متسائلةً، كيف ممكن أن نعيش مستقبلاً في دولة واحدة مع آخرين كانت لهم اليد في قتل أزواجنا وأولادنا، وكيف سنحفظ حق أولادنا بحياة كريمة؟!
وفي ظل تعقيدات الصراع وتعدد الجهات العسكرية المسيطرة على الأرض السورية تغيب الاحصائيات الدقيقة لعدد الأيتام في سوريا، بينما تشير تقديرات تقريبية إلى أن نسبة 10% من عدد السوريين أي ما يقارب مليوني طفل سوري يتيم، وفي إحصائية تعود للعام 2018، نشرها تقرير لفريق الاستجابة في سوريا هناك 190 ألف يتيم في شمال غرب سوريا فقط ونحو ثلاثين امرأة فقدت زوجها.
وتحاول أم مصعب مع العديد من النساء تشكيل رابطة تهتم بشؤون أمهات الأيتام بسبب الحرب، “للمطالبة بحقوق أبناء وزوجات الشهداء، لنطالب بحقوقنا ولنجعل مأساتنا جزءًا من أي حل أو مرحلة انتقالية ولإيصال صوتنا إلى المحافل الدولية”.
وعن الشأن القانوني يوضح المحامي حسام سرحان “أن مفهوم العدالة الانتقالية يشير إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما خلفته الحرب من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوعة من إصلاح المؤسسات.
ومن أهم أركان العدالة الانتقالية بحسب سرحان هو “جبر الضرر”، وهو عبارة عن اعتراف الحكومات بالأضرار التي لحقت بالضحايا، وبناءً عليه تتخذ خطوات لمعالجتها. وغالباً ما تتضمن هذه المبادرات عناصر مادية،كالمدفوعات النقدية أو الخدمات الصحية، فضلاً عن أشكال من التعويض الرمزي كالاعتذار العلني أو إحياء يوم الذكرى.
القاضي خالد شهاب الدين يقول أن من أحد أهم مبادئ العدالة الانتقالية “جبر الضرر” سواء بالنسبة للأطفال الأيتام أو النساء اللواتي فقدن أزواجهن ويتضمن العلاج النفسي والصحة والتعليم وتأمين المسكن وتعويضات مادية.
ويقول شهاب الدين: يمكن ضمان تطبيق العدالة الانتقالية عند تضمين مصطلح العدالة الانتقالية ومبادئه في البحث عن أي تسوية للملف السوري، وضمان تطبيقها في أي اتفاق سياسي أو إعلان دستوري أو دستور مؤقت.