تلك الفتاة بنظارتها السوداء
شابة سورية تشارك في إحدى المظاهرات المناهضة للنظام السوري وتحمل لافتة في مدينة درعا جنوب سوريا
"بدأت بالعمل منذ نعومة أظافرها. عملت في تنظيف إحدى العيادات الطبية الخاصة، فحاول الطبيب استغلاها، فتركت العمل عنده. ومن ثم عملت في إحدى صالات الألبسة، لكن صاحب الصالة لم يعطها سوى القليل من المال لأنها ضريرة"
مضت 4 أعوام منذ أن بدأت اعمل في مركز الدعم النفسي للطفل. ومن اليوم الأول شد انتباهي تلك الفتاة بنظارتها السوداء.
نازحة من ريف حمص الشمالي إلى بلدتنا في ريف إدلب الجنوبي، طويلة القامة نحيلة. يداها ناعمتان لا تقويان على العمل. أكثر ما لفت نظري هو نظاراتها السميكة الداكنة.
كانت هادئة صامتة لا تتحدث إلا القليل، بعكس جميع من كان معنا في المركز. حاولت الحديث معها مراراً وتكراراً لكنها كانت تجيب بقدر السؤال الذي أسألها إياه. الفضول كاد يقتلني لأعرف قصتها، وسبب اختيارها هذا العمل.
بعد مرور بضعة أشهر سمحت الفرصة ان نبقى وحدنا. وجدتها فرصة ذهبية للتعرف عليها. لكن ما سمعته منها أذهلني. ولم يخطر ببالي يوماً أن تكون هذه قصتها. فهي لم تبلغ الـ 17 من عمرها. عائلتها فقيرة جداً، لا تجد في كثير من الأحيان ما تتقي به برد الشتاء، أو حتى حرّ الصيف.
والدها ضرير منذ ولادته، ولديها أخ ضرير مثلهاـ ورثا الضرر عن والدهما. أما أخواتها البنات فهنّ متعافيات ولا يشكين من شيء، وهن متزوجات.
بدأت بالعمل منذ نعومة أظافرها. عملت في تنظيف إحدى العيادات الطبية الخاصة، فحاول الطبيب استغلاها، فتركت العمل عنده. ومن ثم عملت في إحدى صالات الألبسة، لكن صاحب الصالة لم يعطها سوى القليل من المال لأنها ضريرة.
وبعد ان نزحت إلى بلدتنا في ريف إدلب الجنوبي، عرفت بافتتاح المركز. اتصلت بالمدير وشرحت له قصتها. تألم لحالها فحاول مساعدتها. تقول والدموع تملأ عينيها: “بالرغم من أن مرتبي قليل، إلّا أنه افضل مما كان عليه في السابق”.
وتضيف: “كنت أحاول أن أدخر قسما من المال، علّني أقوم بعملية لعينيّ، لديّ ضعف نظر يدرجة -13 درجة. أمي تشقى في عملها لإعالتنا. فقر أهلي وقلة حيلتهم تشغل بالهم ليل نهار. فأبي لا يعمل بسبب حاله، وأهل الخير يساعدوننا قليلاً. هكذا هي حياتي منذ أن ولدت وإلى أن أموت”.
كلماتها جرحت روحي وقلبي. لم أنم تلك الليلة، كنت أتقلب في فراشي. أفكر في معجزة سماوية. أفكر في حالها، فتاة في عمر الورد، لكم تتمنى أن تكون عروسا كباقي البنات في هذا العالم، أو ربما كأخواتها البنات.
في صباح اليوم التالي خطرت لي فكرة أن أخبر المدير بوضعها. ففعلت وسردت له قصتها التي لم يكن يعرف عنها سوى القليل. تشجع كثيراً لمساعدتها. وأخبرني أنه سيحاول الاتصال بإحدى المنظمات الإنسانية، علّنا نستطيع مساعدتها على إجراء عملية لعينيها. لكن علينا في البداية علينا عرضها على بعض الأطباء.
أخبرتها بذلك كادت تطير فرحاً، وكنت أشعر بدقات قلبها تكاد تخرج من صدرها فرحاً. عرضناها على أحد أطباء العيون في البلدة. تقطب جبينه بعد معاينتها وصمت لبرهة، ثم أخبرني على انفراد أن الوضع صعب جداً. ويعتقد أن ليس هناك من أمل أبدا في نجاح العملية.
يا الهي كيف ذلك؟ كيف أخبروها أن الأمل موجود. أشفق الطبيب على حالها، وقرر أخذ الصور والتشخيص إلى تركيا يعرضها على بعض الأطباء. لم أخبرها بذلك، وقلت لها بعد فترة سيرد الطبيب ما الذي يتوجب علينا فعله.
طوال تلك الفترة كانت تسألني في اليوم عشرات المرات، وكانت تجهز نفسها لإجراء العملية. ربما كان أملها كبيراً وحلمها أن تكون كباقي الفتيات، بوجه باسم جميل وعينان بلا ضرر، وبلا نظارات طبية أو حتى شمسية.
اتصل الطبيب وأخبرني أنه عرض حالتها على أكثر من طبيب في تركيا، وكذلك في ألمانيا لكن ليس هناك من أمل ولا حتى واحد بالمئة. كلماته كان وقعها شديداً علي. كأنني أنا صاحبة العلاقة والضرر.
لم أستطع إخفاء الأمر عنها أكثر. أخبرتها بذلك وقلبي يعتصر ألماً. لم تمسك عيناي نفسها عن البكاء وأنا اخبرها. نزلت دموعها بهدوء مهيب، وحمدت ربها حمداً كثيراً، وعادت لهدوئها وقلة حديثها كما عهدتها منذ أن بدأت العمل معنا.
تقى الجمال (26 عاماً) كانت تعمل مديرة لمركز دعم نفسي للأطفال وتقيم حاليا في بلدة معرة حرمة في ريف ادلب الجنوبي.