تجربة دفعت ثمنها عمري ولكنها تستحق
في ما مضى كنت قد بنيت أفكاري على قواعد، لا أعرف من أين ولماذا افترضت إنها قد تكون صحيحة. أما الآن فأصبحت أرى الدنيا وقد تغيرت.
أصبحت منطقية أكثر.
الآن وأنا أكتب هذه المادة يكون قد مضى على حصار مخيم اليرموك 604 أيام. لم نرَ الكهرباء منذ 700 يوم. وعدد شهداء الجوع قد بلغ 171 شهيداً ..جوع !؟؟ نعم جوع.
أكتب هذا الكلام والأرقام في ازدياد …
في ما مضى كنت تلك الفتاة النشيطة التي تستيقظ في السابعة صباحاً … أما اليوم بدأت أقتل ساعات الجوع بالنوم… كالعادة استيقظت عند الساعة 12 ظهراً …خلال الحصار عليك أن تغسل يديك ووجهك الأصفر جيداً لأن كمية الغبار الأسود التي تخرج من مدفأة الحطب كفيلة بأن تجعل لونك أسودًا مع كمية الصفار في وجهك … أخي الكبير يقول من الجيد أن هناك مدفأة على الحطب … ويقصد بالحطب أثاث منزلنا الذي بتنا نقوم بتكسيره من أجل أن ندفأ… من أسباب الغبار الأسود أيضاً المازوت الصناعي، والذي يستخدم في البابور (موقد الكيروزين) من أجل طهي بعض الحشائش والبهارات… لكن عليك أن تكون ماهرًا في إشعاله وإلا ستشتعل أنت، وإن تشتعلت نأسف لا يوجد مرهم للحروق، وإن فكرت بالذهاب إلى المشفى عليك بإحضار دوائك أو حتى مسعفك !!
مخيم اليرموك قبل 3 سنوات كان يغص بالأطباء لدرجة أنه في كل حي يوجد عشرة أطباء. وكنا قد اشتكينا كون لوائح الأطباء المعلّقة على أعمدة الكهرباء. اليوم لا يوجد أي طبيب مختص لدينا… عندما تمشي في الشارع ستشاهد أقداماً وأيدٍ مبتورة … ربما في المستقبل علينا أن ننظم سباقا ماراتونيا لهؤلاء من باب الدعم النفسي. وهو بات حاجة لكل سوري وفلسطيني …
استيقظت متأخرة كالعادة وخرجت إلى السوق والذي يحمل إسم سوق العروبة عندنا. هناك ربما عليك ان تكظم غيظك عندما يلاحقك طفل صغير يتمسك بيديه المتشحتين بغبار أسود، ويضع طاقية كان قد أكل عليها الدهر وشرب يتمسك فيك طالباً قطعة شوكولا … هذا مشهد عادي قد تراه في أي مكان في العالم … لكن في المخيم الوضع مختلف جداً فهذا الطفل الصغير لا يريد نقوداً أبداً بل يريد طعاما وقطعة شوكولا. قد تكون خالية من السكر مكشوفة دون غطاء، تكاد تكون قدر انملة الجنين كفيلة بإشباعه الى اليوم الآخر …
لم يعد في المخيم ما يثير التفاؤل، وإن رأيت الناس مبتسمة فاعرف أن سبب هذا الدوخة الناجمة عن نقص التغذية والضياع. لكن إن خسرنا الأمل بالغد، وإن كان وهماً، إن خسرناه لن يبقى لنا غير الحاضر المحترق والجوع. اليأس خيانة لكل التضحيات والخسائرة والشهداء.