بين ضفتي الحياة في دمشق
بعد أربع سنوات من الثورة في سوريا، لم ينتصر النظام، ولم ينتصر المعارضون. انقسمت الحياة في دمشق إلى ضفتين: ضفة النظام، وضفة المعارضة. ضفة تتمتع بأمن نسبي، ويعيش سكانها حياة طبيعية إلى هذا الحد أو ذاك، وضفة بات الموت خبزها اليومي، فهي تتعرض وفي كل لحظة لكافة أشكال الإبادة الجماعية التي يفرضها النظام عليها، ثمناً لثورتها ضده. وبين هذه الضفة وتلك، لنا مئات الحكايات.
تموز/يوليو 2011
كانت المرة الأولى التي أزور فيها مدينة دوما عاصمة الريف الدمشقي. تلك المدينة التي تقع شرق دمشق، والتي شهدت أولى المظاهرات في الريف، كما قدمت المئات من أبنائها شهداء ومصابين ومعتقلين.
استقلينا عدداً من السيارات وذهبنا من وسط دمشق للانضمام لمظاهرة هناك. كان يوماً أغرب من الخيال، جموع كبيرة من المتظاهرين والذين بإمكانك أن ترمي بنفسك وسطهم دون أن تبالي. هتافات مدوية، ومشاعل ولافتات وشموع يحملها الجميع ويتشاركون بها دون أن يفكر أحد بأن يسأل من بجواره: “ما اسمك؟ ومن أين أتيت؟”. إنه سحر الثورة…
بعد أربع سنوات، نجح النظام من خلال إعلامه ودعاياته في أن يحول دوما “لعاصمة الشر المطلق”. فمن دوما تنطلق قذائف الهاون والصواريخ باتجاه العاصمة، ومن دوما يريد الإرهابيون الهجوم للاستيلاء على دمشق واستباحتها، ومن دمشق تنطلق أصوات كثيرة لإبادة دوما بمن فيها. لكن لي في دوما العديد من الأصدقاء. أحدهم مصور، وآخر صحفي، وثالث مدرس. أصدقائي لا يريدون قتلي، ولا أنا أرغب في ذلك أيضاً. هم يرغبون بحياة طبيعية لا موتاً يومياً فيها، وكذلك أنا.
تشرين الثاني/نوفمبر 2011
مظاهرة مع “سلفيي” مضايا..
كانت الدعوة التي تلقيناها للذهاب إلى بلدة مضايا في ريف دمشق الغربي قريباً من الحدود مع لبنان، للمشاركة في مظاهرة هناك غريبة بعض الشيء. أهل مضايا معروفون بتعصبهم وتدينهم، ولم أعرف كيف لنا أن نجلس سوية في مكان واحد، على طاولة واحدة، كي نتبادل الأحاديث عن الثورة والمظاهرات والحراك السلمي وحاملي السلاح.
على باب منزل في البلدة استقبلنا بحفاوة أحد “السلفيين”، لم يكن شكله مخيفاً بل كان ودوداً للغاية. دعانا للانضمام لكاتبي اللافتات والشعارات التي سنرفعها في المظاهرة. دخلنا غرفة كبيرة فيها شبان وفتيات يخطون اللافتات بعد مناقشة ما سيكتبون فيها، وواحد منهم يعزف على الغيتار ويغني. سرعان ما أحسسنا بأننا نعرف الجميع منذ الأزل، وأمضينا حوالي ساعة من الزمن قبل أن يحين موعد المظاهرة. وهناك، وككل مظاهرات دمشق وريفها، كان الجميع يهتفون بقلب وروح واحدة، ورغم إصرار الرجال على أن تبقى النساء في الخلف مع بعضهن، تمكنت مع صديقاتي من التسلل إلى جموع الشباب والهتاف معهم، وهم رحبوا بنا وأفسحوا لنا مكاناً بينهم. كانت تلك المرة الوحيدة الذي أذهب فيها لمضايا خلال الثورة، لكنها كانت كفيلة بأن يصبح ذلك الرجل الملتحي، والذي استقبلنا في منزله، صديقي.
اليوم، يحدثني صديقي “السلفي” من حين لآخر. يطمئن على أحوالي ويخبرني بحكاياته وحكايات أولاده الثلاثة. لكنني ومنذ بدء استهداف بلدة مضايا بالبراميل المتفجرة، لم أعد قادرة على الاطمئنان عليه. وأفترض بأنه لا زال بخير مع عائلته.
كانون الأول/ديسمبر 2011
ليلة رأس السنة.. يخبرني بعض الأصدقاء بمظاهرة رأس السنة في حي برزة شرق دمشق. أي نهاية أجمل يمكن أن أختارها لهذا العام؟ نذهب دون تردد، ونصل ساحة الحرية في برزة والتي تتزين بأعلام الثورة ولافتات كتبها أهالي الحي. ونمضي أكثر من ساعة في مظاهرة تحلم بعام جديد يحمل لنا معه النصر والخلاص.
اليوم، ساحة الحرية مدمرة بشكل شبه كامل. يعيش حي برزة في هدنة مع النظام بعد حرب دمرت معظمه، لكن أهله يخشون الخروج منه. وصديقتي التي دمر منزلها بالكامل بعد أن جرفته الآليات التابعة للنظام بحجة وجود إرهابيين فيه، تعيش في منزل آخر متواضع، وتنتظر مولودها الأول، الذي حاولت كثيراً تأخير مجيئه، لكن الحرب لا يبدو أنها ستنتهي.
لي مع محيط دمشق حكايات كثيرة نسجتها أحلام الثورة. لكنني اليوم، أعيش في ضفة دمشق الآمنة، ويعيش الكثير من أصدقائي في ضفتها الأخرى. لا أحد منا يرغب بقتل الآخر، ولا الاحتفاء برؤية جثته تتحول أشلاء. جميعنا يبحث عن حياة آمنة، تشبه حياة قديمة كنا نعيشها يوماً ما، عندما كنا نعيش على هامش الحياة.