بيت الحكمة ينهض من تحت الركام
غادر ابراهيم (24 عاماَ) دمشق في 7 أيار/ مايو 2015، هرباً من الملاحقات الأمنية. توجه ابراهيم إلى الشمال، وتحديداً بلدة أريحا، مسقط رأسه في ريف إدلب والتي انسحبت منها قوات النظام في أواخر أيار/ مايو من العام نفسه. استغرقت الرحلة من دمشق إلى أريحا حوالي 3 أشهر. تنقل بين عدد من بلدات ريف حماة، قبل أن يجد طريقاً بالتواصل مع أحد المهربين للوصول إلى بلدته، مجتازاً مناطق كان يسيطرعليها النظام.
بعيد وصول ابراهيم إلى البلدة، التقى بالمكتب الإعلامي باحثاً عن فرصة عمل، راغباً في القيام بمشروع له طابع ثقافي، ليتم الاتفاق مع عدد من زملائه على إنشاء بيت الحكمة، كمركز يسعى لتغطية الأنشطة الثقافية في المدينة.
بيت الحكمة الذي انطلق بمبادرة شخصية بمبلغ قدره ثلاثة آلاف دولار، كان ابراهيم ومعه 3 من الزملاء قد جمعوه في ما بينهم لتأسيس مشروع ثقافي ربحي، يقوم على استضافة فعاليات تعليمية وثقافية ودورات.
ويقول ابراهيم “اجتمعت أنا وعدد من الأصدقاء واتفقنا على إنشاء مركز ثقافي للبلدة، أطلقنا عليه بيت الحكمة، وكانت فكرة المشروع تنبع من ضرورة وجود مؤسسة ثقافية تخرج من التابو الذي فرضه علينا النظام الحاكم طوال 40 عاماً، فتقام فيها نشاطات بعيداً عن الأوامر الحزبية أو التبجيل أو التهليل”.
ويضيف ابراهيم “بعد انسحاب قوات النظام من أريحا، كان من الضروري إنشاء مركز ثقافي يحضّ الناس على القراءة والتعلم بعيداً عن دعاية النظام ورواية التطرف التي يسعى البعض إلى بثها عن المناطق التي سيطرت عليها المعارضة، فكان بيت الحكمة خطوة لإعادة الحركة الثقافية للناس بالوسائل القليلة البسيطة المتوفرة”.
وقع الاختيار على مقهى الريحانة الذي كان قريباً من مركز المدينة. وكانت قوات النظام تستخدمه كمركز لها قبل انسحابها من المدينة. إعادة بناء المقهى من جديد بشكل شبه كامل ليصبح “بيت الحكمة”. تم تفصيل مكتبات وقاعات جديدة لاستقبال رواد النادي، ومن ثم تم نقل الكتب من المركز الثقافي القديم الذي كان قد أسسه النظام وجرى ترتيبها بمكتبات فصلها القائمون على المركز بأيديهم. وجرى استبدال العديد من الكتب السياسية التي تمجد حزب البعث ورموز النظام بكتب أخرى مع الحفاظ على كتب الشعر والأدب والروايات العالمية.
“استضاف المركز عدداً من الدورات المتصلة بالعقلية التنظيمية للمؤسسات وهيكلها التنظيمي، وقواعد إنشاء المنظمات، إضافة إلى دورات لها علاقة باحتياجات المناطق ومهارات القيادة والتواصل وفض النزاعات والوساطة”. يقول المسؤول عن الموارد البشرية وقسم التأهيل والتدريب في المركز نور الحلاق (28عاماً) وهو مدرب مختص بإدارة الأعمال.
ويضيف الحلاق: “تكتسب هذه الدورات أهميتها كون المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام بأمس الحاجة إلى التنظيم، وهذه الدورات تساعد كخطوة مساندة في سبيل إنشاء مجتمع منظم”. ويتابع: “كنا بعيدين جداً عن المجتمع المدني، وهذا المصطلح لم يكن موجوداً، وحتى الآن نجد صعوبة كبيرة في مفهوم المجتمع المدني في مجتمع متضرر مثل هذا المجتمع يرى كل يوم سيناريوهات متعدددة من الموت. فهدف هذه الدورات التعريف بأهمية الإدارة والشفافية، كيف يكون الشخص المتدرب فعال في المجتع وله قدرة على التأثير في الآخرين. قمنا بتدريب أكثر من 200 شخص بالتعاقد مع عشرة مدربين محترفين في شؤون التواصل والإدارة”.
بيت الحكمة الذي يعرف عن نفسه بأنه منظومة ثقافية، تهدف إلى تطوير الشباب وضع في خطته إنشاء مركز نسائي، لتقديم أنشطة للنساء في البلدة، في الإطار الذي يخدم المشروع.
وبحسب مديرة العلاقات في المركزالنسائي هيلين زين (24 عاماً): ” المركز النسائي يأتي كمكمل لمشروع بيت الحكمة حيث يشترك معه بالسياسة الإدارية كما بالميزانية، ولكنه يعنى بالجوانب التي تخص النساء، حيث قمنا بإعداد ورشة للدعم النفسي للنساء في ظل ظروف الحرب”.
وتضيف هيلين: “هنالك النساء اللواتي خسرن أزواجهن أثناء الحرب، أو يعانين من ظروف إنسانية أو اجتماعية سيئة، أو اللواتي يتعرضن لعنف واضهاد كبير من أزواجهن، شكل المركز النسائي التابع لبيت الحكمة متنفساً لهن من خلال دورات الدعم النفسي التي ساعدت في تقديم النصائح والمعونة”.
وتعتبر هيلين أن المركز النسائي شكّل فرصة لنساء المجتمع المحلي لتعلم بعض المهارات، ليكون خطوة في سبيل تمكين النساء ليكن فاعلات في بناء المجتمع والاعتماد على أنفسهن عوضاً عن الاعتماد على الآخرين، وخصوصاً في هذه الظروف بعدما أصبحت المرأة محور بناء المجتمع، بسبب الحرب التي شردت العديد من الرجال بين الموت والاعتقال والسفر خارج البلاد، ليصبح الجزء الأكبرمن عبء الأسرة يقع على المرأة.
تتابع أم محمد (63 عاماً) منذ نحو 3 أشهر دورة شرعية لتعلم أسس التعاليم الدينية الصحيحة. وتقول أم محمد: “بدأ المركز النسوي منذ افتتاحه قبل عام بإقامة دورات محو الأمية، ولكنني أعلم القراءة والكتابة، لذلك فضلت الالتحاق بالدورة الدينية مع أنني أواظب على ممارسة طقوسي الدينية، لكن هذه الدورة تكرس معنى أن الإسلام دين محبة وتسامح دين رفع الظلم عن المظلومين دين يسر وليس دين تزمت وتطرف مثلما يسعى البعض إلى تصويره”.
وتتابع أم محمد: في البداية كان عدد اللواتي التحقن بالدورة قليلا، ولكن بعد وقت بدأت معظم نساء البلدة بالتوافد إلى المركز لتعلم أصول الدين الصحيحة… أهمية هذه الدورات أنها تنشر الوعي بين الناس، وتحث على التعلم الصحيح، على مبدأ: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا “.
وفي 9 يناير/ كانون الثاني 2016، استفاق ابراهيم الذي يبعد منزله مسافة لا تتجاوز مئات الأمتار عن بيت الحكمة على صوت انفجار عنيف. صعد إلى السطح فرأى النيران تلتهم المركز الثقافي بعد استهدافه بصاروخ.
يقول ابراهيم: “عند قصف المركز من قبل الطيران الروسي وصلتنا الرسالة أنهم لا يريدون أي نشاط ثقافي مدني في هذه الأماكن، فهم لا يستهدفون جبهات القتال بالقدر الذي يستهدفون المراكز المدنية والثقافية والأسواق، يريدون أن يصنعوا منا وحوشاً تحمل بداخلها كماً كبيراً من الحقد على إجرامهم ومن ثم يقولون للعالم انظروا هذه هي المعارضة مجموعة من الوحوش ويجب إزالتها والتخلص منها”.
ويختم ابراهيم كلامه: لكننا سنستمر، والآن نعد لإطلاق مركز ثقافي جديد في المدرسة النسوية. سوف نواجههم بالثقافة، هم يقصفوننا بالطائرات، ونحن نحارب كل من النظام والمتطرفين بثقافة الحرية، واحترام حقوق الإنسان”. وقد تم افتتاح المركز الجديد لبيت الحكمة قبل بضعة أيام وتحديداً في 24 آب/أغسطس 2016.