بعد عقد في السلطة: ج 6: اقتصاد السوق..لكن بأي ثمن؟

تبدو دمشق اليوم مزدهرة، لكنها أيضا مدينة مقسمة. نخبة صغيرة من الأغنياء الجدد تتمتع بالحياة إلى أقصاها، تقود السيارات الفارهة، تتسوق في المحال الفاخرة وتتناول الطعام في المطاعم الفخمة. بينما أغلبية السوريين تناضل بمشقة للحصول على قوت يومها.

احتفى بشار الأسد بمرور عشر سنوات على استلامه السلطة بطريقة بعيدة عن أساليب والده، التي كانت تتمثل في حشد المسيرات في الشوارع ورفع صور “القائد” والهتاف بعبارات الولاء والفداء لشخصه.

فبالإضافة إلى رئيس الوزراء وعدد من القيادات الحزبية والنقابية، اجتمع عدد من كبار رجال الأعمال في سوريا في حديقة تشرين وسط العاصمة دمشق، وفي مقدمتهم رجل الأعمال وصاحب الريادة رامي مخلوف، ابن خال الرئيس، الذي رعى، هو، وليس أي من القيادات الحزبية أو الحكومية، رفع أعلى سارية يرفرف عليها العلم السوري في البلاد.

تلك الصورة الفريدة التي تناقلتها وسائل الإعلام، تلخص ربما الكثير من السياسة السورية الداخلية حالياً. من النموذج الاشتراكي للاقتصاد مع تركيز على القطاع العام، إلى التوجه نحو اقتصاد السوق والاعتماد أكثر فأكثر على القطاع الخاص. في مقدمة هذا التحول يأتي دور “مخلوف” ومجموعة من رجال الأعمال المعروفين، والذين يمثلون في أغلبهم ورثة مسؤولين سابقين في النظام السوري.

من أجل مواكبة التحولات الاقتصادية العالمية نحو مزيد من العولمة، جلب التحرير النسبي للاقتصاد السوري، البنوك الخاصة، استثمارات في الصناعة و قطاعات العقارات والسياحة، وتأسيس سوق للأوراق المالية.

وفقا لتقرير صدر مؤخرا عن مجموعة اوكسفورد للأعمال، فإن سوريا تحقق تقدما مضطردا على الجبهة الاقتصادية التي تعد بالمزيد من تطوير  “إعادة إحياء العلاقات مع الولايات المتحدة…ومفتاح الشراكة التجارية مع الاتحاد الأوروبي”.

تحدث التقرير بالتفصيل حول كيف دأبت سوريا مؤخرا على استكشاف قدرتها على بناء شراكة بين القطاعين الخاص والعام، وبشكل خاص في صناعة النفط، والاستفادة من المستثمرين في المشروعات الرئيسية.

رغم هذه التوقعات بتحسن الاقتصاد، يرى محللون من داخل البلاد أن الثروة لا يعاد توزيعها وأن الفساد يحمي مصالح دائرة المتنفذين المسيطرين على الأعمال.

عام 2009، صنفت سوريا بالمرتبة 126 من أصل 180 دولة، وفقا لمؤشر الفساد من قبل منظمة الشفافية العالمية. في العام الذي سبقه صنفت سوريا بالمرتبة 147، ويرجع بعض المراقبين هذا التحسن إلى تحرير البنوك وقوانين الاستثمار.

اقتصاد السوق مقابل العدالة الاجتماعية

التحول الاقتصادي في سوريا حصل بشكل رئيسي خلال السنوات الخمس الماضية، عندما تبنى حزب البعث اقتصاد السوق الاجتماعي خلال مؤتمره القومي عام 2005، تبع ذلك عدد من القوانين التي تسمح لمستثمرين من الخارج بافتتاح بنوك خاصة.

أكد الحزب حينها، بأن التغيير سيقود إلى تحرير الاقتصاد مع ضمان العدالة الاجتماعية، وهي الخطة التي بالكاد نفذت لاحقا، وفقا لعديدٍ من المحللين.

آخرون يقولون بأن تحرير الاقتصاد لم يؤت ثماره بعد، لأن القطاع السوري الانتاجي ليس قويا كفاية لينافس المنتجات الخارجية.

تبدو دمشق اليوم مختلفة تماماً عما كانت عليه قبل عشر سنوات. فقد ظهرت في العاصمة، الفنادق الفارهة، المطاعم الفخمة، البنوك الخاصة وشركات التأمين، يقودها جيل جديد من المتعهدين الذين يحظون بروابط قوية مع النظام.

لكن وراء بريق الأحياء الفارهة، فإن الفجوة بين الفقراء والأغنياء لا تزال في ازدياد. على العكس من الأجزاء الغنية في دمشق وبعض ضواحيها، فإن العشوائيات البائسة تنتشر أيضا حول المدن الكبرى.

بينما استعرت أسعار العقارات في المدينة، فإن ظروف المعيشة في العشوائيات بالغة المشقة. من الخدمات السيئة إلى التلوث والازدحام.

على الرغم من أن الأرقام الرسمية تظهر بأن مستويات الفقر انخفضت، فإن هذا الانخفاض يحدث ببطء. مقارنة بعامي 1996-1997 ، فإن مستوى الفقر انخفض من 12،6 % الى 9،9%  في المناطق الحضرية، ومن 16% الى 15،1% في المناطق الريفية عامي 2006-2007، وفقا لتقرير وطني مقدم إلى الأمم المتحدة حول التقدم المنجز في تحقيق أهداف الألفية في التنمية.

أسعار البضائع، العقارات، الكهرباء ارتفعت بشكل ملحوظ خلال السنوات القليلة الماضية، مضيفة عبئا ثقيلا على الطبقات الاجتماعية الأدنى. يقول المراقبون بأن موجات المهاجرين العراقيين بعد غزو العراق عام 2003 أدت أيضا إلى ارتفاع الأسعار.

معدلات البطالة ارتفعت بدورها، خاصة بين الشباب. وفقا للأرقام الرسمية، بلغت البطالة عام 2009 نحو 8% لكن تقديرات غير رسمية تزعم بأن الأرقام الحقيقية هي أعلى بثلاث مرات. هذا دفع قطاعات كبيرة من الشباب للهجرة بحثا عن عمل أفضل وسبب هجرة أدمغة من سوريا وفقا لبعض المراقبين.

جوهرة سوريا المفقودة

من الملاحظ أيضا موجات الهجرة الداخلية من المناطق الريفية إلى المدن. بينما كانت الزراعة من الركائز الأساسية للاقتصاد السوري في الماضي، وتساهم بنحو 44% من الدخل القومي في الخمسينات، فإن أهميتها تراجعت بشكل ملحوظ في العقد الأخير. اليوم 15% فقط من القوى العاملة تعمل في القطاع الزراعي.

منطقة الجزيرة، التي احتوت تقليديا على أهم محاصيل القطر الاستراتيجية بالاضافة إلى النفط، والتي كانت تعرف بجوهرة سوريا، أضحت من أفقر المناطق في البلاد وتعيش على المساعدات الدولية.

بينما ضرب الجفاف المنطقة لثلاث سنوات متتالية بين 2007-2009، يقول بعض الخبراء بأن الأساس في تدهور الزراعة في تلك المنطقة هو السياسات الحكومية البائسة، خاصة فيما يتعلق بإدارة الثروة المائية.

شح المياه تضافر مع نقص التقنيات الحديثة في الري، واستمرار استجرار المياه من الآبار العشوائية. ذلك بالإضافة إلى سنوات من ضعف الاستثمارات في المنطقة والافتقار إلى تنمية القطاع الزراعي. شهدت السنوات الماضية موجة هجرة كبيرة من قبل مزارعين في الجزيرة هجروا أراضيهم لينتقلوا إلى ضواحي المراكز الحضرية.

بعض الأرقام تظهر مدى تدهور الزراعة خلال السنوات الماضية. إنتاج القمح انخفض عام 2008 بنحو 82% مقارنة بالعام السابق، ما أجبر البلاد التي كانت مصدرة للقمح فيما سبق، على استيراد القمح للمرة الأولى خلال خمسة عشر عاما.

الثروة الحيوانية أيضا تأثرت بشدة.

عام 2009، واجه المزارعون تحد آخر عندما قررت الحكومة رفع الدعم عن الوقود. أسعار المازوت الذي يستخدم كمصدر أساسي للطاقة بالنسبة للمزارعين، ارتفعت ثلاثة أضعاف.

أزمة الانتاج المحلي

ظروف القطاع الصناعي لم تكن أفضل. مع انفتاح السوق على بضائع صينية وتركية أرخص، العديد من المنشآت الصغيرة والمتوسطة لم تكن لديها القدرة على المنافسة.

خلال العقد الماضي، تحدثت الصحافة المحلية عن إغلاق مئات المنشآت غير القادرة على المنافسة.

ارتفاع أسعار الوقود عام 2009، وضع المزيد من الضغوط على الصناعة المحلية. تحرير الاقتصاد أيضا، خفض من قيمة ضرائب البضاعة المستوردة، ما أدى إلى انخفاض في إيرادات الخزينة وبالتالي فرض المزيد من الضرائب.

بعض المحللين يقول أن الحكومة لم تستثمر بشكل كاف في القطاع الصناعي، بما يجعله تنافسيا بشكل أكبر. فقط 13% من الاستثمارات في البلاد هي في القطاع الصناعي، وتوظف نحو 17% من القوى العاملة، وفقا للخبير الاقتصادي فؤاد اللحام في محاضرة ألقاها في أبريل الماضي ضمن ندوة الثلاثاء الاقتصادي.

وقد لاحظ أيضا بأن معظم الصادرات السورية هي مواد خام أو نصف مصنعة، بينما تستورد البلاد المنتجات الجاهزة ، مشيرا على أن سوريا يمكن أن تستفيد من انتهاء دورة الانتاج.

يخشى الاقتصاديون بأن اتفاقية الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، التي من المتوقع أن يجري توقيعها في وقت قريب، سوف تزيد من صعوبة واقع الانتاج المحلي.

قطاع عام مريض

عبء آخر على الاقتصاد السوري هو القطاع العام الضعيف والمتعثر. عندما توفي الأسد الأب، ترك ورائه قطاعاً عاماً ضعيفاً مثقلا بالفساد والبيروقراطية. على الرغم من أن ابنه تحرك جزئيا من أجل خصخصة القطاع العام، فإن أية إجراءات جدية لم تتخذ لإنقاذ هذا القطاع.

عام 2009، فقط 49 من أصل 91 شركة عامة كانت تحقق أرباحا، وفقا للأستاذ اللحام. مصير آلاف الموظفين في شركات عامة غير منتجة، لا يزال مجهولا.

يقول البعض بأن عملية الخصخصة لم تدرس بشكل دقيق. يقولون بأن القطاع الخاص يقطف ثمار الشركات العامة الرابحة، كما هو الحال بالنسبة لمصانع الصلب، الاسمنت، وصناعة الورق.

في الوقت الحالي، تقول التقارير بأن الحكومة بصدد خصخصة قطاع الكهرباء، والموانئ وغيرها من القطاعات.

فوق ذلك كله، فإن الاقتصاد السوري ليس إنتاجيا بعد. عام 2008، فإن القطاع الانتاجي ساهم بـ 45% من الدخل الوطني الاجمالي، وفقا لأرقام رسمية.

يحذر الخبراء أيضا بأن انخفاض معدلات انتاج النفط خلال العقد القادم سيزيد الضغوط على الاقتصاد.

تعد عائدات الانتاج النفطي المصدر الأول للدخل بالنسبة للخزينة في الوقت الحالي. لكن يخشى كثيرون بأن النفط سيجف عام 2025، مع انخفاض مستويات تدفق النفط خلال العقد الماضي.

تدفق الاستثمارات الخارجية

بمواجهة تلك التحديات، تأمل الحكومة السورية بالحصول على الاستثمارات الخارجية من أجل معالجة وتنشيط الاقتصاد.

خطوات هيكلية وقانونية عديدة اتخذت خلال العقد الماضي من أجل تشجيع المستثمرين للقدوم إلى سوريا.

وفقا للأرقام الرسمية، فقد ارتفع الاستثمار الخارجي في البلاد عشر مرات ما بين 2003-2008. تلك الاستثمارات ساهمت بنحو 27% من الدخل القومي بما يعادل 1،8 بليون دولار أمريكي وفقا لتقرير نشر عام 2008 من قبل وكالة الأنباء السورية سانا.

تأتي الاموال بصورة رئيسية من دول الخليج الغنية بالنفط، كقطر والكويت والسعودية، لكن أيضا من السوريين المغتربين في بريطانيا وكندا. الاستثمارات في قطاعات الاتصالات، البنوك، التأمين، إمدادات الكهرباء، الصناعات الاستخراجية، وكذلك في قطاع الفنادق والمطاعم.

عام 2009، تلقت سوريا 1،5 بليون دولار أمريكي من الاستثمارات الخارجية وصنفت في المرتبة الحادية عشرة في قائمة الدول العربية في تلقي الاستثمارات الخارجية المباشرة، وفقا لتقرير نشر عام 2009 من قبل مؤسسة الاستثمار العربي.

لكن محللين يقولون بأن الحكومة لا تزال تحتاج لبذل جهود أكبر لإصلاح النظام القضائي، محاربة الفساد، والاحتكارات، كي تجتذب مستثمرين أكثر في المستقبل.

خطوة أخرى اتخذت لتشجيع زيادة الأموال للمشاريع المحلية، كانت عبر إنشاء أول سوق للأوراق المالية في سوريا عام 2009.

لكن بعد نحو عام من إنشائها، لا تزال السوق تحقق نتائج متواضعة، وفقا للخبراء. عدد الشركات المدرجة في السوق حاليا هو 24، ضمنها عشرة بنوك وعدد من شركات التأمين. لكن قيمة التداولات لا تزال متواضعة، وأعلى رقم وصلته في إحدى جولاتها كان 2،25 مليون دولار.

يقول مراقبون بأن السوريين لا يزالون لا يعلمون كيفية الاستثمار في سوق الأوراق المالية.

قطاع السياحة المزدهر

نظريا، فإن أكثر قطاعات الاقتصاد نجاحاً اليوم هو قطاع السياحة، الذي يساهم بـ 11% من الدخل القومي وفقا لوزارة السياحة في سوريا.

منظمة السياحة العالمية صنفت سوريا في المرتبة الثالثة بالنسبة لنمو السياحة عام 2009، عندما زار البلاد أكثر من ستة ملايين سائح.

عدد السياح تضاعف منذ بداية 2010 كنتيجة لإلغاء طلب الفيزا بالنسبة لعدد من الدول كتركيا وإيران.

وفقا لوزارة السياحة فإن السياح من أوروبا والخليج يساهمون اليوم بأكثر من 23% من القطع الخارجي.

مصدر هام آخر هو السياحة الدينية الإيرانية التي تأتي إلى سوريا بأعداد كبيرة على مدى العام لزيارة المواقع الشيعية الدينية.

أخيرا، لا يبدو أن تحرير الاقتصاد أدى إلى التأثير المطلوب، جزئيا، بسبب تدهور الإمكانيات الانتاجية، وأيضا بسبب أن البلاد لا تستطيع استغلال طاقاتها كاملة مع استمرار العقوبات الأمريكية على دمشق.

يقول خبراء بأن العقوبات الأمريكية المفروضة منذ عام 2004، ربما منعت وصول الاسثتمارات الخارجية في سوريا إلى مستويات أعلى. الآمال تتمحور حول أن التهدئة في العلاقات بين الولايات المتحدة وسوريا، قد تساعد في إزاحة بعض العقبات التي تمنع سوريا من أن تصبح دولة أكثر عولمة.

إحدى علامات التحسن في العلاقات كانت تلقي سوريا مقعد مراقب في منظمة التجارة العالمية هذا العام، بعد أن أسقطت الولايات المتحدة معارضتها لهذه الخطوة. أيضا، فإن شخصيات أمريكية أساسية، خاصة في قطاع التكنولوجيا، زارت سوريا خلال السنوات الماضية في إشارة على أن المستثمرين الأمريكيين ربما يولون اهتمامهم إلى السوق السوري.