“بركان دمشق”: مشاهدات من قلب الحدث
طيلة ليل الثلاثاء الموافق للسابع عشر من تموز/يوليو، كان هدير الحوّامات وصليات رشاشاتها يطغى على سماء حرستا، التي تبعد عن مركز مدينة دمشق عشرة كيلومترات. لقد تحققت مخاوفي من أن يتحول الريف الدمشقي الهادئ إلى ميدان حرب تستعمل فيه كل الأسلحة الثقيلة وترتكب فيه مجازر بحق المدنيين.
إتخذت من حرستا مكاناً لإقامتي منذ خمس سنين لكوني أعمل في مجال صناعة الألبسة وقد توافد على هذه المدينة في ريف دمشق ممتهنو الخياطة وتوابعها من كل أنحاء سوريا، ويبلغ عدد سكانها ما يقارب المئة ألف نسمة. تتوزع في المدينة ومحيطها الكثير من حواجز الجيش النظامي، إذ تعتبر حرستا منطقة “ثورية” ساخنة. وقد شاركتُ في العديد من المظاهرات الصاخبة التي جرت في المدينة، وتابعتُ عن قرب اندلاع مواجهات عنيفة بين الجيشين الحر والنظامي.
لم أستطع النوم جيداً في تلك الليلة. في الفجر، إستفقت على صوت انفجار صاروخين في بستان قريب. عند الواحدة ظهراً قمت بجولة في الحي الذي أسكنه. رأيت حوّامتين تطلقان النار على منطقة القابون التي يفصل بينها وبين حرستا الطريق السريع. كنت قد أزمعت في ذلك الصباح التوجه إلى دمشق، لكن خوفي من انتقال القصف إلى المناطق القريبة من سكني حال دون ذلك. وفي صباح اليوم التالي بدأت بالفعل موجة جديدة من القصف المدفعي على كل من عربين وزملكا والمزارع المحيطة بحرستا ورأيت كيف كانت الحوّامات تطلق الصواريخ على هذه المناطق. علمت بعدها من صفحات الثورة على فيسبوك بسقوط عشرات الشهداء. بقيت على هذه الحال، أستمع إلى نشرات الأخبار وأشاهد صور المعارك التي كانت تبث عبر التلفزيون من قلب دمشق في كل من حيّي التضامن والميدان.
أخرجت الراديو الذي يعمل على البطارية من الخزانة تحسباً لانقطاع طويل للكهرباء، ثم نزلت لأتجول في الشوارع. كانت علامات الحيرة والذهول تطغى على وجوه بعض السكان، كأنهم لا يصدقون ما يجري في بلدتهم، فيما خرج آخرون من بيوتهم بأمتعتهم قاصدين مناطق أكثر أمناً. أناس آخرون بدا عليهم عدم الإكتراث وهم جالسون أمام بيوتهم يحدقون في الحوامات التي لم تهدأ.
لم تكن خدمة الإنترنت مقطوعة عن حرستا بعد. كنت أكتب إلى الكثير من الأصدقاء من الصحافيين والناشطين عما يجرى من تطورات ميدانية بعد إعلان الجيش الحر عن بدء عملية “بركان دمشق” والتي كان هدفها كسر الطوق الأمني على دمشق وريفها. ترافق هذا الغليان مع إعلان التلفزيون الرسمي السوري عن مقتل عدد من أركان النظام.
في اليوم الأول من شهر رمضان، أي في 20 تموز/يوليو، وبينما كنا متجمعين حول مائدة الإفطار، دوّى انفجار قوي وقريب واتضح لنا أنّ قذيفة هاون سقطت على مساحة الأرض الخالية التي تلاصق البناء الذي نقطن فيه.
نزلنا إلى “الملجأ”، وهو ليس إلا طابق أرضي من البناء. بقينا لمدة أربع ساعات حتى توقف القصف، ثم رجعنا إلى الشقة، لكننا أمضينا تلك الليلة متوجسين من تكرار القصف. في الصباح أوصلت أهلي إلى أقارب لنا في بلدة عدرا الواقعة شرقي حرستا على بعد 20 كيلومتراً وهي أكثر أمناً من باقي بلدات الريف الدمشقي. كنا ثلاث عوائل التجأت إلى البيت المكون من ثلاث غرف وفناء واسع. واحدة من العائلتين الأخريين جاءت من حي الأكراد في قلب العاصمة فيما هربت الثانية من بلدة حجيرة في ريف دمشق.
كانت سوق عدرا مكتظة بالناس، فقد لجأت مئات العوائل إلى هذه البلدة كونها آمنة بعض الشيء. رأيت امرأة نائمة في سيارة مع أولادها. يبدو أن السبل قد تقطعت بهم ولم يحصلوا على مأوى. كان الوقت قبل الإفطار بقليل والضجيج يعلو من مدرسة ابتدائية باتت مقراً لإيواء النازحين.
رجعنا من عدرا بعد قضائنا ليلة واحدة لأن البيت ضاق بساكنيه وضيوفه. وفي طريق العودة، وبالتحديد ما بين مخيم الوافدين ومشفى حرستا العسكري، بدت كميات من فوارغ طلقات الرصاص على حواف الطريق. شاهدنا سيارة شحن كبيرة محترقة في منتصف الطريق. تجاوزناها بصعوبة وأعيننا مسمرة نحو القناصة المتمركزين فوق الأبنية العالية. لاحظنا وجود متاريس الرمل ورجال واقفين بينما كان عناصر حاجز مشفى الشرطة، كالعادة، يطلبون هويات الذكور البالغين ويتبادلون الأحاديث مع السائقين.
في يوم الجمعة 27 تموز/يوليو خرجتُ مع المتظاهرين في حرستا، حيث لم تتوقف المظاهرات. كان عدد المتظاهرين في البداية حوالي 300. مشيت معهم لبعض الوقت، لكني قررت العودة إلى البيت خوفاً من مضاعفات ضربة الشمس التي أصبت بها في عدرا من كثرة تجوالي في البلدة. وبمجرد وصولي إلى البيت تعالى أزيز الرصاص، فقد استُهدفت المظاهرة، وسقط فيها شهيد وعدة جرحى، كما علمت لاحقاً.
قررت وعائلتي النزوح عن حرستا بسبب الخوف من تكرار القصف وكانت وجهتنا القامشلي التي أتحدر منها. وبينما كنت في كراج البولمان الرئيسي في دمشق، الواقع في منطقة معامل القابون، إندلعت فجأة معركة بين الجيش الحر والجيش النظامي. كان جميع من في الكراج متوجسين من سقوط قذائف عليهم فسارعت إلى الخروج وتمكنت من شراء التذاكر في مكتب فرعي في دمشق.
هاتفني أحد أصدقائي وأعلمني أن الجيش الحر قد نفّذ عدة عمليات في حرستا وأن القوات النظامية قد شرعت بقصف المباني السكنية فسقط عدد من الشهداء والجرحى، بينما كانت تجري اعتقالات عشوائية لكل من يتنقل في الشوارع.
رغم ذلك حاولت الرجوع إلى حرستا ولكن كان الدخول إلى الحي الذي أقطنه أشبه بعملية انتحارية. فأصوات الإنفجارات كانت مخيفة ورأيت رتلاً من السيارات المحطمة حديثاً بعد مرور دبابة من فوقها. فقفلت راجعاً إلى دمشق وأمضيت ليلتي في بيت صديق في حي ركن الدين.
في السادس من آب/أغسطس خرجت مع عائلتي من حرستا. كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر. كنا نخاف من انتشار القناصة على الطريق السريع ومن مزاجية عناصر الأمن المتمركزين على الحواجز، ويضاف ذلك إلى الأذى النفسي الذي يلحق بأي إنسان وهو يمر في شوارع يملؤها الدمار والسيارات المحطمة. بعد تسع ساعات من السفر، إستطعنا الوصول إلى القامشلي وقضاء ليلة هادئة عكرها بعض أصوات العيارات النارية؛ ربما كان مطلقو النار يجربون أسلحتهم الفردية بين الحين والآخر كي يتأكدوا من جاهزيتها.