بانتظار زوجي الحاضر الغائب

الحاضر الغائب..

الحاضر الغائب..

كنا لا نزال نعيش في مدينة ديرالزور في الشطر الذي تسيطر عليه قوات النظام. حينها لم يخطر ببالي إننا سنتعرض لهزة عائلية كبيرة.
كان الخارجون من دير الزور باتجاه الشطر الاخر من المدينة، يقفون في طوابير أمام الحاجز الأخير الخاص بقوات الأمن، قبل أن يصعدوا إلى مراكب نهرية تنقلهم إلى الضفة اليسرى لنهر الفرات. هذا الانتقال يعتبر عبئاً.
دائماً تجد الناس العابرين للحاجز في حالة نفسية غير طبيعية، لإنهم ببساطة قد يقعون بقبضة النظام نتيجة تقرير كاذب من شخص لا ضمير له، سواء كان الأمر يتعلق بحسد أو كراهية أو بأسباب أخرى.
حين اقتربنا من الحاجز كنا نتصرف وكأننا على وفاق مع وضع طبيعي مشروع، سلمنا هوياتنا الشخصية للعسكري بعد دقائق أطل من الغرفة رجل بلباس مدني ونادى بلكنة غريبة عن مدينتنا على زوجي، وطلب منه اللحاق به الى غرفة الحاجز واختفى الاثنان داخل الغرفة.
بدأت اسمع دقات قلبي تتسارع ويداي ترتجفان، وعيناي اللتين بدأت تغطيهما غشاوة وضباب ظلتا معلقتين على باب الغرفة. وكأن الزمن توقف وتكسرت عقارب الساعات. وبعد دقائق كأنها الدهر فتح الباب وظهر العسكري ممسكاً بيد زوجي. أسرعت اليهما فصرخ بي الرجل الغريب أن أبتعد.
لم أكترث، وسألت زوجي: “ماذا هناك؟” رد والقلق باد عليه: “لا اعلم ربما تشابه اسماء”.
بدأت اصرخ واكتست ملامحي بالخوف وصرخ ولدي منادياً بابا. وانهمرت الدموع من عينيه وتتالت صرخات العسكري علينا للابتعاد، واعادوه إلى الغرفة من جديد. حينها اقترب آخر مني ليمهس في اذني: “سيأخذونه الى فرع الامن العسكري. ارحلا أنتِ وابنكِ وإلا اقتادوكما معه”.
كانت كلماته كالصاعقة. تجمدت في مكاني ولم اعد قادرة على الكلام. امسكت بيد ابني ولااعرف أين اتجه وقدماي ترتجفان. لا أعرف كيف وصلنا غلى البيت، وانا أجر خيبتي بترك زوجي بين أيدي الظلم والمصير المجهول. انفجرنا بالبكاء وقد اسودت الدنيا بأعيننا.
بدأت رحلة البحث عنه عبر مافيات النظام ومرتزقته من السماسرة والعملاء. إلى ان علمت مقابل، مبلغ كبير من المال انه تم تحويله الى فرع فلسطين في دمشق. كنت متأكدة من براءته من كل التهم الموجهة إليه. كان مواظباً بعمله كأستاذ بجامعة الفرات وهو الأب الطبب الحنون المحبوب من قبل كل طلابه وزملائه ومعارفه.
لم يكن أمامي سوى المحافظة على عائلتي الصغيرة من ملاقاة نفس المصير فكان لابد من الرحيل. لكن كيف وقد وقعت المدينة تحت الحصار الخانق وقطعت كل الطرق البرية. بمساعدة بعض الاصدقاء وبالإتفاق مع مرتزقة النظام وسلب مبلغ كبير من المال حزمنا أمرنا وحقائبنا.
انطلقنا باتجاه المطار والرعب يسكن قلوبنا عابرين 16 حاجزا امنياً على طول عشرة كيلومترات فقط. تم نقلنا الى دمشق بطائرة مخصصة لنقل، السلاح والشبيحة والجثث. وصلنا عاصمة الياسمين وقد تحولت الى معسكر تقطع شوارعه شبيحة النظام وازلامه لبث الرعب والخوف في نفوس العابرين .
وهنا بدأ مشوار أخر في دمشق محاولة مع السماسرة للإفراج عنه. مضى اليوم الاول كانت الساعات تمر على عظام صبري فتفتتها. وكل يوم افقد جزءًا من الأمل حتى أيقنت انه لاجدوى من البحث والإنتظار. وقد خسرت ماتبقى من المال فكان لا بد من مواصلة الرحيل نحو حياة جديدة. حياة لاشيء فيها الا التعب والخوف والمجهول.
كانت بداية لمسعى آخر للخروج من سوريا بأمان. واستطعنا هذا بمشقة وكانت وجهتنا الى لبنان رحلة رعب أخرى ومنه الى تركيا. بدأت معاناة جديدة. وكل مرحلة أتجاوزها تكون بداية لمرحلة شقاء أخرى وتلك قصة اخرى قد اسردها في وقت آخر.
ببساطة غادر زوجي كبقية الغائبين قسرياً، وتحول غيابه الى سكين تحز في رقابنا حياتنا تنزف وهماً. وهم انتظار من لايعود ووهم ألم، يعيش على ضفاف حياتي وحياة أسرتي.
سميرة علوان (52 عاماً) من دير الزور. زوجها اعتقله النظام. مهندسة زراعية، تنقلت وعائلتها بين دير الزور ودمشق ولبنان وصولا إلى تركيا. وفيما هي تبحث عن فرصة عمل لم يحصل اطفالها على فرصة لاستكمال دراستهم الحامعيه كطلاب هندسة.