باقِ على العهد
أصعب ما في الوجود ان نفقد أناساً نحبهم، وهذا ما حصل معي عندما استشهد ولدي عبد الرحمن إبن الـ 29 ربيعا. منذ بداية الثورة كان يتسلّل ليلاً ويكتب العبارات الثورية على الجدران. كنت أموت رعباً وخوفاً عليه ريثما يرجع. عندما بدأت المظاهرات، كنت أسير جنبا الى جنب معه. أكتب له ولرفاقه المتظاهرين العبارات، وأطبع لهم الأعلام. عشنا معا فترة من الحماس لا تنسى، كنا نصدح بأصواتنا ونطالب بالحرية.
دخل جيش النظام مدينة إدلب في مارس/آذار عام 2013. بدأ بمداهمة البيوت، وإلقاء القبض على الشباب. عندما بلغني الخبر لم أعرف ماذا أفعل؟ أين سأخبئ ابني؟ احترت، فطلبت منه أن يختبئ في خزان المياه. داهموا البيت وفتشوه شبراً شبراً، خفت أن يصدر حركة فيقبضوا عليه ولكنهم والحمد لله لم يجدوه. حينها قررت الخروج من المدينة، سبقني ولدي عن طريق البراري، بعدها لحقت به مع زوجته وأولاده. أقمت معهم في قرية تقع قرب ادلب تدعى سيجر، كان البيت حيث أقمنا هناك اشبه بالمقر. كنت أطهو للمجاهدين وأشتري لهم اللباس، وكثيراً ما كانوا يأتون بزوجاتهم، فينامون عندنا ريثما يعودون من المعركة، خاصة المهاجرين منهم وبعضهم كان من الاجانب. كنت أتفاهم معهن بلغة الإشارة، أو بعض الكلمات الأجنبية التي أعرفها. كنت سعيدة بهن فاللغة لم تفرّقنا، لأن ما جمعنا هو شيء أقوى بكثير، هو الإيمان بالله وإعلاء كلمة التوحيد. كنت أعجب لشدّة إيمانهن وحجابهن وتمسكهن بالعقيدة. دائما كنت أقول نحن أولى بدين محمد.
كان عبد الرحمن وبعد كل معركة يخوضها يعود متمسكا بالجهاد أكثر. كان كثير الضحك والمرح وفي نفس الوقت يتحدث عن حياة أخرى. كان دائماً يقول: حياتي هناك في الجنات. كنت أستغرب هذا الإحساس فيه، سألته يوماً: كيف تجمع حب الدنيا والآخرة؟ فقال ضاحكاً: أشتري الآخرة بالدنيا ولكن بطريقة مرحة. في كل يوم أعيشه أحب أولادي وزوجتي أكثر، فأحرص على سعادتهم والمرح معهم. وأجاهد لنيل رضى الله والفوز بالجنة.
كثيراً ما أبكى هذا الكلام زوجته. وكثيراً ما حاولت إقناعه أن يترك الجهاد. كانت تقول له: يكفي ما قدمت، ها قد خضت الكثير من المعارك، فماذا تنتظر ان تموت؟ كا يجيبها: ألم تقرأي قوله تعالى “ولا تحسبن الذين قتلو في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون”. ولكنه إلّا أن يكمل طريقه. قبل ثلاثة أيام من استشهاده اشترى درعاً، قال لي: ما اشتريته خوفاً من الموت، إنما اشتريته أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي صباح اليوم التالي باكراً كنا نشرب قهوة الصباح طلبوه على جهاز اللاسلكي، كان يتواصل به مع المجاهدين. خرج مسرعاً لم يسألنا كما جرت العادة: أتريدون شيئا لأحضره معي. لكنه لم يقلها، ربما أحسّ أنه لن يرجع، أو ربما كان مسرعاً ليلبي نداء الجهاد فنسي أن يقولها. عند الغروب عاد ولكنه عاد ممدداً. لم يعد على قدميه، عاد محروقاً بأكمله، ما عدا وجهه. استهدفه جيش النظام هوورفاقه بصاروخ حراري. احترق قلبي وفاضت دعيناي دموعاً فسجدت سجدة شكر لله عزوجل ورفعت يديّ للسماء، قلت وصوتي يختلط بالبكاء: يارب نذرته لك فهل تقبلته. اقتربت منه فلم اشتم منه رائحة الحروق، وإنما لفت انتباهي ذلك النور في جبينه والرضا في وجهه. اقترب الأحباب لعزائي فقلت لهم ولا اعرف من اين جائتني تلك القوة: لا عزاء اليوم بل بشر وهناء. فلقد أعددته ليسلك هذا الطريق، وعرفته لن يحيد عنه و قد نال ما تمناه.
مرّت الأيام سريعة، وقررت زوجته الزواج برجل آخر. وقررت أنا تربية أولاده وإعدادهم كمجاهدين. ينعمون بالدنيا وخيراتها ويدركون في نفس الوقت انها طريق للعبور إلى جنات الخلد .