بأي حال عدت يا رمضان؟

كانت الناس تترقب غياب شمس يوم الأربعاء لتعلن بداية شهر رمضان لهذا العام. المسلمون ينتظرون قدوم شهر رمضان ليمارسوا الطقوس التي اعتادوا عليها من الإفطارات العائلية وتحضير أطايب الطعام ومتابعة مهرجان الدراما على محطات التلفزة وما إلى ذلك. أما نحن في سوريا، فرمضان كان يعني لنا استحضار ذكريات الزمن الماضي، والتحسر على الواقع المر الذي وصلنا إليه.

عندما أعلن المؤذن في الجامع القريب من بيتي أن غدا هو أول يوم من رمضان لم أستطع أن أتمالك نفسي، وفاضت عيناي بالدموع. بدأت أتذكر ماذا فقدت في رمضان.

في أول رمضان عرفته الثورة السورية عام ٢٠١١ ، كانت المظاهرات الليلية تزيّن شوارع مدينة دوما. كان المتظاهرون يتجمعون في المساجد، وبعد انتهاء صلاة التراويح، تخرج المظاهرة. في إحدى المرات جاءت صديقات لنا مسيحيات من دمشق، و خرجن معنا في مظاهرة مسائية. أضأنا الشموع في تلك المظاهرة رمزاً لنبذ الطائفية والتعصب، الذي وصف به نظام بشار الأسد المجرم الثوار. ولكن النظام أبى إلّا أن يصبغ رمضان شهر المحبة والسلام بالدم. اقتحم مدينة حماة الثائرة ذات الجرح الماضي، و ارتكب المجازر فيها، أخمد أصوات أهلها الأحرار بنازيته ووحشيته.

أمرأة نازحة من كوباني الى الشيخ مقصود تطبخ على الحطب. تصوير: براء الحلبي

في رمضان الثاني من عمر الثورة السورية عام ٢٠١٢ ، استمرت وتزايدت المظاهرات وتواصلت المطالبة بإسقاط النظام. أهم جريمة ارتكبها النظام في رمضان كانت في ليلة السابع و العشرين ليلة القدر. عندما اقتحمت  قوات النظام السوري مسجد الرفاعي في منطقة كفرسوسة. دنسوا المسجد و داسوا على المصاحف و اعتدوا على المصليين و ضربوا الشيخ أسامة الرفاعي. في دوما خرجنا مظاهرة استنكار و مشينا في شوارع المدينة. قررنا أن نذهب إلى العاصمة دمشق فخرجت المظاهرة من دوما إلى عربين و من ثم وصلت إلى سقبا، هناك هجمت قوات الأمن السوري على المتظاهرين و بدأت تطلق النار بشكل عشوائي. وتعتقل الناس بشكل تعسفي. كان ذلك اليوم رمزاً لوحدة الغوطة الشرقية كلها، ومؤشراً لحمية الثوار ضد الظلم والعدوان. أما في بقية أيام رمضان فكان القناص التابع للجيش السوري،  والمتواجد على حواجز المدينة مهمته الأساسية هي اصطياد الناس الأبرياء. وخاصة في فترة الإفطار و بعد صلاة التراويح ليفرض حظر تجول نوعاً ما. كان يقتل ما لا يقل يومياً عن شهيد أو اثنين.  فقدت في ذلك الشهر الفضيل أخي الكبير عندما تعرّض للقنص هو و صديقه أثناء عودتهما من العمل قبل الإفطار.  لم يمضِ يومان حتى استشهد ابن أختي أيضا الذي لم يبلغ من العمر 16 عاما أيضا برصاص القناص.

أما رمضان الثالث عام ٢٠١٣ ، فكان الظلام والظلم قد خيم على الغوطة الشرقية. غابت الكهرباء عنها وفرض النظام الحصار عليها، و منع عنها موارد الحياة الأساسية. فغابت مادة الطحين وتوقفت الأفران عن العمل، وازدادت أسعار المواد الغذائية بشكل كبير. بدأت ظاهرة التسول تزداد بكثرة بسبب الفقر المتزايد. غيب الاعتقال عني ابني وحيدي. حرمني من جلوسه معي على مائدة الإفطار، فعندما نجلس لتناول الفطور تجد أعيينا تفيض بالدمع، والغصة تخنق حناجرنا، و القهر أثقل كاهلنا. هناك مقعد فارغ على مائدة الإفطار ينتظر صاحبه. الجريمة الأكثر بشاعة التي ارتكبها النظام، كانت مجزرة الكيماوي. عندما استيقظنا في صباح اليوم السابع والعشرين من رمضان على مآذن المدينة، وهي تكّبر وتدعو الأهالي إلى أخذ الحيطة و الحذر، واتباع التعليمات التي تنادي بها. حيث قام النظام بضرب الغوطة بصواريخ كيماوية استشهد فيها كحصيلة أولية ما لا يقل عن ألف شهيد. وبدأت عملية انقاذ ما تبقى من أهالي الغوطة، حيث خرج المسعفون و المتطوعون بشكل كبير نحو الغوطة الشرقية. عجت النقاط الطبية في المدينة والجوامع بأهالي مدينة زملكا وسقبا وعين ترما وغيرها، من تلك المناطق التي أصابتها الصواريخ. اتخذت عملية الإسعاف شكلاً جماعياً، شارك فيها كل من استطاع. فمن نقل للشهداء إلى المقابر ودفنهم، ونقل الأحياء والإشراف على علاجهم، ونقل بقية الأهالي إلى بيوت العائلات والمساجد التي فتحت لهم، إلى الآن كل تلك المشاهد مازالت حاضرة في ذاكرتي.

في رمضان الرابع كان الحصار قد اشتد والفقر ازداد. ولكن أهم ما ميزه هو نظام الذل الذي اتبعته الجمعيات الإغاثية تحت عنوان: مشروع إفطار صائم. الذي كان يقوم على توزيع وجبات غذائية لا تكفي عائلة واحدة للإفطار، وتصوير الناس أثناء توزيع الوجبات بطريقة مذلة. كنا نسمع بأرقام كبيرة يتبرع بها المحسنون لأهالي الغوطة، ولكن لا نرى من تلك الأموال شيئا إلا القليل.

رمضان هذا العام حمل معه من الأسى ما يكفي، فقبل قدومه بيومين في 16 حزيران/يونيو 2015،  قام النظام بقصف مدينة دوما بصواريخ أرض أرض، وغارات للطيران. ما أدى إلى سقوط عشرات الضحايا.

هذا هو رمضان في سوريا. رمضان صبغ بالحزن والقهر والجوع والمآسي. ذكريات من الظلم لن تمحى إلا برمضان نصر خالٍ من بشار الأسد وأتباعه.

بأي حال عدت يا رمضان؟