انتفاضة السوريين: ثورة محطمي الأصنام
في فعلٍ رمزي أُريد له أن يكون لحظة إسدال ستارة الختام على عهد صدام حسين في العراق، قام جنود مشاة البحرية الأمريكية في 9 نيسان/أبريل 2003 بربط تمثال الرئيس العراقي السابق بدبابتهم وتحطيمه وإسقاطه وسط إحدى الساحات الشهيرة في بغداد. مشهد فريد في حدوثه، عنيف في دلالته. تبعه واستكمله مشهد آخر أداه مواطنون عراقيون دحرجوا رأس التمثال على الأرض وداسوه بأرجلهم وضربوه بأحذيتهم.
في سياق مشهد مختلف جوهرياً ابتداءَ في 15 آذار/مارس 2011، لم يلجأ المنتفضون السوريون ولم ينتظروا قوات غازية لتقتلع وتحطم وتمزق ما يتوجب عليهم هم اقتلاعه وتحطيمه وتمزيقه من تماثيل وصور الطاغية السابق حافظ الأسد ونجله الأكبر، باسل، ووريثه الرئيس الحالي، بشار. فسارعوا منذ الأيام الأولى لإنتفاضتهم، في درعا والرقة ودير الزور وحمص وتلبيسة والرستن، إلى اجتثاث وتمزيق “أصنام” وأيقونات عبادة الأسد، بل أن عدداً منهم استشهد أثناء انهماكهم في ذلك أو قُتلوا ومُثِّل بجثثهم، فيما بعد، انتقاماً.
لا يبدو أن ثمة ثورة اجتماعية أو سياسية أو فكرية استغنت عن هذا الفعل الرمزي الهام المتمثل في تحطيم الأصنام؛ فهو يُشير إلى قطع الصلة مع الماضي، مع القديم ومع التقليد والموروث والمعتاد والمألوف والثابت والمستقر، مع ما اعتبر لفترة طويلة بديهياً وشرعياً لا يحتمل الشك وغير قابل للنقاش. إنه قطعٌ مع المحافظة وتحرر من ثقل الحضور والقدرة الكليين، اللذين تعمل هذه الأيقونات على ترسيخهما في عقول وقلوب الناس؛ والتأسيس، عبر هذا القطع، للجديد والمبتدَع والمستحدَث، لما هو غير يقيني وغير ملموس، لما هو آثم ومجهول ومدنّس في عقول الكثير من الناس.
بهذا المعنى كان الأنبياء والمصلحون والفلاسفة الكبار والفنانون الرواد وقادة الثورات كافة محطمي أصنام. طليعيون ارتادوا فضاءات أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، لكن خيالهم تحول بإراداتهم الحديدية إلى واقع صلب سارت عليه البشرية بإسرها ورائهم.
في إحدى لحظاته الثورية الأولى، ومع دخوله الظافر إلى مكة انصرف الإسلام، ممثلاً بشخص الرسول محمد، إلى تحطيم أصنام ديانة أجداده الجاهلية الوثنية. هذا العمل الذي أطلق ما سُمي، لاحقاً، “الجدالات البيزنطية” حول طبيعة هذه الأيقونات وعلاقتها بالشخوص التي تمثلها.
ورغم أن تحطيم تماثيل الطغاة في الحاضر يُكرر المعنى ذاته ويقوم بالوظيفة ذاتها؛ إلا أن حدة كل مرة، يُحطَّم أو يُسقط فيها صنم مستبد من هؤلاء، تحمل في طياتها وتختزل ثقل وكل معاني التحطيم والسقوط السابقة، تُكثِّف حركة تقدم التاريخ باسره. ففي كل ثورة تحضر كل الثورات؛ كل ثورة تكرر كل ما سبقها من ثورات، لكنها تبقى ثورة فذة وفريدة تستحدث جديدها.
عندما يحطم شباب الثورة في سورية أيقونات عبادة الأسد؛ التماثيل والصور الحاضرة في كل ساحات المدن والبلدات، في كل المؤسسات والمنشآت العامة والخاصة، في غرف الدراسة في كل المدارس ومدرجات الجامعات؛ مصحوبة بأجهزة الرقابة الأمنية والحزبية التي تتجسس على المواطنين وتعد وتسجل عليهم أفكارهم وأحلامهم وآرائهم وتجمعاتهم وتنقلاتهم، وتتدخل في أدق تفاصيل حياتهم وعملهم ودراستهم وسفرهم وما يقرأون ويكتبون وما يعتقدون وما يُنكرون، وترسم بغرور عابث مصائرهم أفراداً وأُسراً؛ عندما يُسقطون أصنام الطاغية الكلي الحضور والمعرفة والقدرة، فإنما ينتزعون من ميادينهم العامة ما يرمز إليه من جبروت وتعسف ويحررون عقولهم وقلوبهم من الخوف والتوجس واللايقين واراداتهم من الضعف والاستكانة.
وهكذا لن يكون لثورة شباب سورية معنى ووظيفة “الثورة”، إن لم يُنشئوا عبرها نظاماً سياسياً تُحترم فيه آرائهم وأفكارهم وأصواتهم، إن لم يشاركوا في كل دقائق صناعة مستقبلهم. وستذهب دماء آلاف السوريين وعذابات مئات آلاف الرجال والنساء سدى، إن لم يتوصلوا إلى بناء دولة ديمقراطية، دولة القانون والمؤسسات، دولة تعطيهم حقوق متساوية في الدراسة والعمل على أساس الكفاءة والجهد لا الولاء والمحسوبية. ولن تتجسد هذه الحقوق دون مجتمع منفتح، ودون مواطنة حقة تُبنى من أفراد ذوي عقل وإرادة حرين مستقلين. لن تكون ثورة السوريين ثورة إلا إذا أنتجت تغييراً جذرياً ككل ثورة.