انتظرته حتى الموت!
- احدى نساء الريف الادلبي وهي تتسوق من السوق الرئيسي تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"لو أنني أراه ومن بعد ذلك أموت"
وفاء، إنسانة طيبة، قاربت الأربعين من العمر… جاءتْ إلى قريتنا مع عائلتها، هرباً من أحد أحياء حلب، حيثُ كانوا… هربوا من بطش النظام، وسكنوا في منزل على مقربة من منزلي. وصارت وفاء جارتي.
روَتْ لي في يوم بحسرة عن إبنها البكر ابراهيم، الذي اعتقله النظام وهو في طريقه لزيارة خاله في دمشق في العام 2013.
ابراهيم حينها لم يكن قد أكملَ 16 عاماً… تصفه لي وفاء بالقول: “إبني شاب طويل القامة وأسمر اللون، كنتُ أراه يكبر أمامي ولا أُصدِّق عينَي من سعادتي به”. وتُكملُ بمرارة: “منذُ تاريخ اعتقاله لا أعرف عنهُ شيئاً…”
باعت وفاء أساورها وبعضاً من أثاتِ منزلها، واقترضت مالاً من معارفها، محاولةً أن تُعيد إبنها إليها!
خاطرت بحياتها، وذهبت إلى مدينة حماة حيثُ قيل لها أنه في هناك في السجن! وقعت ضحية نصب لأحد المحامين الذي وعدها أنهُ سيُخرج ابراهيم من السجن، مقابل أن تدفع لهُ مليونَي ليرة سورية… ودفعت لهُ من المبلغ مليون ونصف، على أن تدفع بقية المبلغ بعدَ خروج الإبن من السجن. ذهبت جهود وفاء هباءً، وسرقَ المحامي مالها وأملها، وعادت إلى القرية بخيبة أمل.
قصة النصب هذه، ليست الأولى ولا الوحيدة، فكثير من المحامين وضبّاط النظام والمقربين منهُ يستغلون أوضاع أهالي المعتقلين ويتاجرون بآمالهم، مقابل وعود كاذبة.
عادت وفاء إلى نقطة الصفر، وتأكَّدَ أنَّ ابراهيم لم يكن معتقلاً في سجن حماة… صارت تسمع أنهُ معتقل في دمشق في فرع فلسطين، ومنهم مَن أكَّدَ لها وجوده في سجن صيدنايا!
كانت وفاء تتخبَّط، تريدُ بصيصَ أملٍ بأن ترى ابنها… كنتُ أُحاول أن أُهدئ من روعها، وأمدُها بالأمل، لكنّي إلى اليوم أكيدة، بأنَّ ابن الـ 16 عاماً، لن يستطيعَ أن يتحمَّل عذابَ الجّلادين في سجون النظام…
لكن مَن يستطيع أن يقول هذه الكلمات لأُم؟
وفاء، لم تفقد الأمل يوماً… بلغ عمر انتظارها 3 سنوات! رزقها الله بطفل آخر. التقيتها في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، كانت في السوق تشتري الحليب لابنها ذي العشرة أشهر… ألقيتُ عليها سلامَ الجيرة، وسألتُها مرة جديدة عن إبنها ابراهيم، علَّها تكون قد عرفت عنهُ شيئاً… فقالت بحرقة والدموع في عينيها: “لو أنني أراه ومن بعد ذلك أموت!”
في صباح اليوم الثاني، 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، كنتُ أُوضِّب المنزل، بعدَ أن ذهب زوجي وأولادي للعمل في البستان… لم تكن الساعة قد أتمّت التاسعة صباحاً. حينها انقضَّت طائرة حربية على قريتنا وألقت بصواريخها قرب المغسلة عند الطريق العام، الذي لا يبعد عن منزلي أكثر من عشرات الأمتار…
هرعَ الجيران إلى الملاجئ والمغارات حيثُ نختبئ كالعادة، خوفاً من غارة جديدة. وفي الملجأ، رحتُ أستعلم عن الإصابات…
قالَ لي جارنا أنَّ جارتنا وفاء كانت تجلس أمام منزلها مع زوجها لحظة وقوع الغارة، وقد أصابتها شظية لعينة فتكت بها، واستشهدت على الفَور! فيما أُصيبَ زوجها بشظايا في وجهه وساعده. فهذا كان الحال، كلما وقعت غارة، تُصيب الهدف المباشر، وتبعثر شظاياها يميناً ويساراً.
رحمكِ الله يا وفاء، لا أعلم إن كنت قد التقيتِ بابنك ابراهيم بعد موتك! أو أنهُ ما يزال على قيد الحياة، وسيخرج من سجون النظام ليبحث عنكِ كما بحثتِ عنهُ سابقاً! ولكنك وفي كل الأحوال قد ارتحتِ من عناء الدنيا، ومن رحلة البحث التي قضيتِ في آخرها، منتظرةً محترقةَ القلب.
نور الهدى إدلبي (39 عاماً)، متزوجة منذُ 18 عاماً، وأم لثلاثة أولاد. حاصلة على شهادة البكالوريا – الفرع الأدبي.