النزوح الأخير من القصير: رحلة الموت!
في ليلة الخامس من حزيران/ يونيو، أدار ما تبقى من أهالي مدينة القصير، ومقاتليها، ظهورهم للمدينة الصغيرة الغارقة في دمارها وقرروا الانسحاب. جاء ذلك بعد صمودهم لثمانية عشر يوماً في مواجهة قوّات النظام وحزب الله.
في تلك الليلة، كان عدد المصابين، وأغلبهم من المقاتلين، قد بلغ حوالي الألف شخص.
رائد أحد أبناء المدينة. قاتل، إلى جانب أخيه طارق، في صفوف الكتائب المسلّحة، وكانا، مع أخوين آخرين لهما، قد شاركا حوالي العشرة آلاف شخص رحلة الخروج من المدينة بعد سقوطها في يد قوّات حزب الله والقوات الحكومة السورية.
“كان القصف عنيفاً جداً حتى أنّنا كنا نشعر أن الصواريخ وقذائف الهاون تصطدم ببعضها البعض في الجو”، يقول رائد في وصف تلك الليلة.
يعيش رائد وطارق اليوم في بيروت مع والدتهما، بالإضافة إلى خمسة عشر شخصاً من العائلة في شقة من ثلاث غرف. كما ويتشاركون، كما الغالبيّة الساحقة من اللاجئين السوريّة، أوضاعاً معيشية سيئة في انتظار المجهول، إذ إنهما عاطلان عن العمل.
بالعودة إلى أحداث ليلة النزوح، يقول رائد إن قادة الكتائب اتفقوا على الانسحاب، بعدما تيّقنوا من عدم قدرتهم على الصمود بسبب الإصابات التي لحقت بعدد كبير من المقاتلين، دون التمكن من إسعافهم كي يعاودوا الانضمام إلى المعركة. كانت المدينة محاصرة بالكامل ومن جميع الجهات. يتحدّث رائد عن أربعة حواجز تسد جميع منافذ القصير وهي: أبو هايل، والمشتل،وسمير رعد، حارة بين السكتين أوالمربع الأمني.
في يوم الخامس من حزيران/ يونيو بدأ إخلاء الجرحى والمصابين إلى منطقة البويضة وهي أراض زراعيّة مكشوفة تقع شمال المدينة. قبل ذلك، كان جلّ المدنيين، بالإضافة إلى المقاتلين، قد تجمّعوا وفق ما يقول رائد “في الحارة الشماليّة التي مثّلت نقطة انطلاق لمنفذ الخروج الوحيد المحاذي لمطار الضبعة العسكري، الواقع شمال غربي المدينة”.
بحسب رائد ضمّ التجمّع ما يقارب “ثمانية آلاف مدني وألف وثلاثمائة مقاتل بالإضافة إلى ألف ومئتي جريح”. ويقول مقاتل سابق في “الجيش الحر” كان في القصير، عرف عن نفسه باسم “أبو منار”، يعيش حالياً خارج سوريا، إن عملية النزوح قد بدأت بقافلة من 700 شخص نصفهم من المقاتلين والنصف الآخر من المدنيين يوم الثالث من حزيران/ يونيو، أي قبل يومين من عملية النزوح الكبيرة التي شارك فيها، بحسب أبو منار، بين 7000 و10000 شخص بين مقاتل ومدني. أما قناة الجزيرة، فكانت قد بثت تسجيلاً مصوّراً لأحد النازحين يتحدّث فيه عن وجود أربعة آلاف مدني في إحدى قوافل النزوح.
فادي وهو من المقاتلين المشاركين في رحلة النزوح الأخيرة من القصير، انتهى به الحال أيضاً في بيروت ويقول “كانت ثمّة قافلة كبيرة من السيارات الخاصّة، معظمها شاحنات زراعيّة (بيك آب) يقارب عددها الألف وخمسمئة”.
بعد التجمّع، بدأت “رحلة الموت”، كما يصف طارق حركة نزوحهم، يلاحقهم خلالها الموت الذي فرّوا منه والذي تمّثل، في أوّل الرحلة، بطائرة حربيّة قصفت المحتشدين في مساء يوم السادس من حزيران/ يونيو، حينما كانوا في البويضة وهي نقطة التجمع الثانيّة بعد الحارة الشماليّة وتبعد عنها حوالي خمسة كيلومترات. يقول طارق “قصفت الطائرة الحشد بصاروخ موّجه والتجأ من يستطيع الحركة إلى “خط ساريكو”، وهو بحسب رائد، قناة مائية مكونة من أنبوب من الإسمنت المسلح. كانت الغارة تمهيداً لقصف قامت به قوات النظام من مطار الضبعة.
أدّى القصف إلى سقوط ثمانية شهداء وعدد من الجرحى، كما تسبّب في بعثرة التجمّع. عن هذا الأمر يقول فادي “ربّ ضارّة نافعة: ساعدنا تبعثر الحشد في الحفاظ على بعض الأرواح”، ويضيف “كما ساعدتنا الأراضي الزراعيّة ذات التربة الطريّة. إذ كانت الصواريخ تسقط فينغرز الرأس وقسماً من جسم الصاروخ في التراب، الأمر الذي جنّبنا الشظايا”.
بعد جولة القصف الأولى هذه، تمّ الاتفاق على المسير ليلاً انطلاقاً من منطقة الصالحيّة . وضع قادة الكتائب تعليمات للمسير، يقول رائد “كان ممنوعاً على سائقي السيارات استخدام الأضواء، كما طُلب من الجميع استعمال ولاّعاتهم وتم إطفاء أجهزة الهاتف الخلوي، وطُلب من الجميع أن يسيروا بصمت مطبق!”.
يقول طارق إن القافلة توقفت نحو الساعة الثالثة صباحاً بعد أن اعترض طريقها كابل خط توتر عالي على الأرض أما المصيبة، كما يقول، فهي “أن أحداً لم يعرف أنّنا محاصرون: أمامنا خط التوتر الذي ينبغي رفعه، وعلى يميننا وشمالنا حاجزين قريبين لقوّات النظام هما حاجزي الدْمينة والحمرا”. ويضيف:”خلال سعي الشباب لرفع خط التوتر بدأ إطلاق نار من الأسلحة الرشاشة (بي كي سي) على منتصف القافلة”. يصمت ثمّ يتابع “.. هناك استشهد أخي الصغير!”
دفن طارق ورائد أخاهما في قبر بعمق لا يزيد عن “شبر واحد” قبل متابعة رحلة النجاة. يقول الأوّل “اضطررت إلى حفر قبره بحربة الكلاشينكوف وبسيخ تنظيف البندقيّة”.
ينتقل رائد بالحديث إلى مرحلة جديدة من “رحلة الموت”، يقول “جلسنا بهدف الراحة بعد أن صارت ظهورنا للحاجزين. كان علينا أن ننتظر مغيب الشمس كي نعاود المسير”. ولكن “مجدداً، قصفت طائرة حربيّة النازحين في المقدّمة”.
ويتابع طارق “تمّ الاتفاق على نقل المصابين أوّلاً وعلى دفعات. مع كل مصاب كان يُسمح بمرافق واحد. أمّا أولئك الذين لا يستطيعون المشي فكان يرافقهم ثمانية أشخاص يتناوبون على حملهم”. ثمّ يضيف “مرّت الدفعتان الأولى والثانية بسلام، وبعد أن انطلقت الثالثة بوقت قصير بدأ إطلاق النار عليها من قبل عناصر الحاجزين”.
يصف طارق تلك اللحظات بالـ “جحيمية”، ويقول” كانت طلقات الأسلحة الرشاشة تخترق الأجساد. وكانت تتسبّب في إشعال النيران بسبب العشب الجاف المنتشر في تلك المنطقة. كان المنظر وكأنّه مشهد من يوم القيامة: دخان ونار وجرحى وشهداء وأناس أصابهم الهلع يركضون في جميع الأنحاء”.
وصل التجمع، بعد أربعة أيام من المسير، إلى الأوتوستراد الدوّلي على دفعات. اتخذوا خلال هذه المدة طريق يقول عنه فادي إنّه “طريق تهريب احتياطي”، ويتابع “كنا نعتمد في طعامنا، طيلة أيام النزوح، على حبات اللوز والقليل من البطاطا التي التقطناها من بساتين المنطقة. وكنا نكتفي برشفة ماء. أما الأدويّة فلا وجود لها، الأمر الذي تسبّب بموت عدد من المصابين بسبب تقيّح جروحهم”.
ويظهر مقطع مصور عن عملية نزوح من القصير، نشر على موقع يوتيوب بعد نهاية معركة القصير، ظروفاً شبيهة جداً بما رواه المتحدثون الثلاثة، حيث يظهر موت أحد الجرحى النازحين، بالإضافة إلى قيام أشخاص بالحفر في الأرض لاستخراج حبات بطاطا وتناولها نيئة.
عن لحظة وصول القافلة إلى الأوتوستراد الدولي (الذي يؤدي إلى لبنان، وهي الوجهة النهائيّة الأولى للقافلة، يقول رائد مبتسماً “شعرت أني قطعت الصراط المستقيم”.
دخل النازحون إلى قريّة صغيرة تدعى الديبة وجلسوا في مدرسة القرية يتسّقطون أخبار عائلاتهم وزملائهم في الرحلة. يقدّر رائد عدد الذين فُقدوا في “رحلة الموت” هذه بما يقارب الألف شخص بين شهيد ومفقود.
بات النازحون في انتظار الشاحنات التي ستنقلهم، قبل أن يتفرقوا، إلى وجهتهم الأخيرة؛ منطقة القلمون (قارة ويبرد ـ 80كيلومتر شمال دمشق)، أقلّتهم إلى هناك سيارات من أنواع مختلفة، أغلبها شاحنات نقل، أرسلتها الكتائب المسلحة المسيطرة على تلك المنطقة.