المهجرون السوريون من يعوضهم ذكرياتهم وانتماءهم وسلامهم النفسي؟
امرأة سورية تحمل كالون من الماء في مخيم الرفيد بريف محافظة القنيطرة.
يحضر وجه تلك السيدة العجوز بقوة كلما استرجعت ذكرياتي عن رحلتي في قافلة التهجير. تلك الرحلة التي بدأت ظهيرة 21 يوليو/تموز 2018 من مدينة القنيطرة (جنوب دمشق) إلى مناطق الشمال السوري الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة المسلحة. أذكر بوضوح ملامح تلك السيدة التي كانت تجلس بالقرب مني، تلوم شابا يقف أمامها، وتحمّله المسؤولية عن تهجيرها وتركها لمنزلها.
يمثل وجهها وكأنه حاضر أمامي الآن، فأشاهد نفسي متكورة فوق حقيبة حضنت أوراقي الثبوتية، وبعض ملابسي، انتظر مع مئات من المدنيين والإعلاميين والعناصر التابعيين لفصائل مسلحة باصات التهجير بلونها الأخضر. وأمعن في قسمات وجه السيدة العجوز المتعب من الانتظار، من حرارة الشمس المرتفعة، ومن حسرتها على تركها لمقاعد المضافة التي نجدتها حديثا، كما كانت تقول للشاب.
وبين كل حسرة وأخرى تنهال على الشاب المدجج ببندقية وبمخازن رصاص لفها حول خصره، بعبارات سب وشتم، لأنه لو لم يلتحق بالجيش الحر لما كانت هي هنا تنتظر باص يبعدها عن دارها وديارها. ثم تهدأ نبرات صوتها الغاضبة، وتغوص عينيها في تجاعيد وجهها وتناجيه: “يا يما رجعني على القرية”. ويأتي رد الشاب حازماً ليقضي على كل أمل لها بالعودة، وهو يقول: “خلص رجعة ما في، لعند مين بدك ترجعي إذا كل ولادك طالعين لإدلب! بعدين شو أنتي أول وحدة بتترك بيتها وبتتهجر، ما نصف الشعب السوري مهجر!”
“ما نصف الشعب السوري مهجر!” عبارة تختصر قضية بحجم وطن. تشهد المناطق السورية ومنذ اندلاع النزاع فيها في عام 2011، عمليات تهجير قسرية مستمرة، داخلية وخارجية، لأفراد وجماعات من مختلف الفئات والتوجهات السياسية والدينية والاثنية. وتصف المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) مسألة التهجير بالمأساة الهائلة، حيث ذكرت بأنه يضطر واحد من بين اثنين من الرجال والنساء والأطفال السوريين للنزوح قسراً منذ بداية النزاع في مارس 2011 ولأكثر من مرة واحدة في أغلب الأحيان.
ويشكل السوريون اليوم أكبر جمع من اللاجئين حول العالم. ويذكر تقرير مركز بيو للأبحاث الصادر في عام 2016 بأن عدد من ترك منزله من السوريين بنحو12.5 مليون سوري، يتضمن ذلك النازحين داخل سوريا، أو اللاجئين إلى بلدان أخرى، أو من قدموا طلبًا للجوء وينتظرون قرارًا بشأنه.
محمود (52عاما)، سوري كردي، أو كوردي كما يفضل الأكراد تسميتهم، لاجئ مع عائلته في ألمانيا منذ العام 2015، عاش تجربة التهجير القسري أكثر من مرة، ويقول محمود: ” أول مرة كانت في أواخر عام 2013. عندما غادرت منزلي في مدينة عدرا العمالية بريف دمشق إلى مسقط رأسي في مدينة عفرين شمال حلب، هربا من تهمة باطلة لفقت لي، مفادها تعاوني مع الجماعات الارهابية المسلحة والتي كانت متواجدة آنذاك في الغوطة الشرقية. وحيدا دون زوجتي وأبنائي كنت”.
ويتابع محمود: “عدت إلى دمشق لأقطن متخفيا في إحدى ضواحيها مع عائلتي التي نجت بأعجوبة من اقتحام وحصار مدينة عدرا العمالية من قبل فصائل مسلحة قدمت من الغوطة الشرقية. كنت آمل حينها اثبات براءتي من التهمة الباطلة، ولكن ما حدث إنه تمت ملاحقتي من قبل أفرع النظام ومخابراته، وتم وإصدار قرار بفصلي من وظيفتي الحكومية حتى دون التحقيق معي. الأمر الذي دفعني لمغادرة دمشق مع عائلتي والعودة إلى عفرين”.
ويلفت محمود إلى أن: “عفرين كانت خاضعة لسيطرة حزب الاتحاد الديموقراطي حيث لم تكن الامور أفضل حالاً، فاضطررت لمغادرتها إلى تركيا بدايات 2014 نتيجة مواقفي المعارضة. و كواحد من آلاف السوريين الذين غادروا تركيا إلى الدول الأوربية عبر البحار وطرق التهريب، بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية، وصلت إلى ألمانيا مع عائلتي في 2015، لأصبح لاجئا سوريا ينتظر مع ملايين السوريين اللاجئين العودة الآمنة إلى سوريا يوما ما”.
جودت ملص (23 عاما) كان يعمل في المجال الإعلامي من معرة النعمان في ريف ادلب، التي غادرها مرغما إلى تركيا في 2014. يقول ملص: ” تعرضت للاعتقال والتعذيب في سجون هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) ولمدة شهرين كاملين، بتهمة انتقاد سياستهم وتصرفاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وبعد خروجي من معتقلاتهم، بقيت عرضة للملاحقة والتهديد مما اضطرني ترك اهلي ومنزلي والمغادرة “.
شارك بعمليات تهجير الشعب السوري كل أطراف النزاع تقريبا في سوريا، فبحسب دراسة اجرتها الرابطة السورية لكرامة المواطن على 1100 مهجر سوري تحت عنوان “we are Syria “، نجد أن نســبة 56 % مــن إجمالــي المشاركين بالدراســة صرحــوا بأنهـم خرجـوا مـن مناطقهـم في ظـل تواجـد القـوات الحكوميـة فيهـا وهيمنتهـا المطلقة على هـذه المناطق، وبلغـت نسـبة المشاركين الذيـن أجبـروا على مغـادرة المناطق الخاضعـة بسـبب سـيطرة قـوات المعارضة 19%، في حيـن أن 16% فـروا مـن المناطق التـي يسـيطر عليهـا تنظيـم الدولة الإسلامية (داعـش). وشـكل الذيـن غـادروا المناطق الخاضعـة لسـيطرة قـوات سـورية الديمقراطيـة وهيئـة تحريـر الشـام 5 % و4 % على التوالي.
اتخذ التهجير القسري في سوريا أشكالاً عدة، ممنهج وغير ممنهج، جماعي وفردي، وتحول في حالات عدة إلى أداة استخدمتها الاطراف المتنازعة في سوريا كوسيلة لفرض السيطرة العسكرية، والسياسية والايديولوجية. وذكر تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية الصادر بتاريخ 2018 ، بأن السلوك غير المشروع الذي انتهجه المتحاربون في فرار الناس من بيوتهم سوف يكون له أثر مدمر أيضاً على ديمغرافيا المجتمع السوري في المستقبل.
يضاف إلى آثار التهجير المختلفة تأثيراً لا يأخذه البعض بجدية وهو الأثر النفسي. كثيرة هي الشهادات حول هذا التأثير وصعوبات التأقلم مع بيئات جديدة محلية أو خارجية. عن هذا الجانب يقول الدكتور جلال نوفل، أخصائي في الأمراض النفسية: ” تختلف الاثار النفسية على المهجرين بحسب الفئة العمرية، فيعاني الأطفال القلق والاكتئاب لفقدان الشعور بالأمان وخسارة الأصدقاء والمدرسة، ويتمظهر القلق والاكتئاب عند الأطفال، بالميل للتعلق الشديد بالأهل والخوف من التواصل مع المجتمع الجديد، التبول الليلي، التدهور الدراسي، نوبات غضب، شكاوى جسدية (الام بطن، صداع، غثيان، اسهال) لا تجد تفسيراً طبياً لها، تأتأة، اضطرابات في الكلام، عناد زائد، عدوانية، بكاء زائد لأسباب بسيطة”.
ويضيف نوفل: “ويتمظهر القلق والاكتئاب عند المراهقين بـتطرف ردود الفعل والأفكار، اللجوء للكحول والمخدرات والعنف، والشغب فالتعرض للسجن، سلوكيات التحدي، وإيذاء النفس المتعمد وصولاً لمحاولات الانتحار. أما في عمر 20- 40 سنة فقد يتطور القلق والاكتئاب وحتى الاضطرابات الذهانية، نتيجة صعوبة تكيفهم مع المحيط وشدة شعورهم بالخسارة والعجز، وربما يتظاهر ذلك بالميل للعزلة والتقوقع والارتياب في المحيط ونشوء توترات أو شجارات مع المحيط أو ضمن العائلة، ما يزيد حالات الطلاق والتفكك العائلي و/أو الاجتماعي والتعرض للسجن، وربما ميل المهجرين لتشكيل مجتمعات مغلقة “غيتو” أو شبه مغلقة عندما لا تتوفر عملية اندماج منظمة بالمجتمع المستقبل. وتكون معاناة المسنين أعمق لشعورهم بأن كل ما بنوه في حياتهم تحطم ولا يمكنهم بناء حياة جديدة أو تعلم مهارات جديدة، ويفاقم قلقهم واكتئابهم وجود أمراض مزمنة ما يرفع لديهم قلق الموت الوشيك، والشكاوى الجسدية غير المفسرة طبياً، وربما يتطور إلى ارتياب وشك ذهاني بالمحيط، خاصة إن شعروا بالإهمال وعدم التقدير”.
كما تختلف الاثار النفسية للتهجير بحسب نوعية الخسارات، فمن خسر ابنه أو زوجه أو أهله أو تم تدمير بيته أو منطقته، سيزداد احتمال تعرضه للقلق والاكتئاب مع تعدد الخسارات أو أهميتها المادية والنفسية.
يعرف القانون الدولي التهجير القسري بأنه إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها، وهو يندرج ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
ووفق ما ورد في نظام روما الإنساني للمحكمة الجنائية الدولية، فإن “إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين يشكل جريمة ضد الإنسانية”.
وعليه فإن حل مسألة التهجير القسري للشعب السوري، تحتاج وبالضرورة محاسبة مرتكبيها، ورد الحقوق المعنوية والمادية لمن وقع عليهم فعل التهجير القسري. ولعل أهم أو أبرز الحقوق هو حق الملكية في السكن والأرض والعقارات. وقد قدم تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية الصادر بتاريخ 2018 جملة من التوصيات البراغماتية إلى جميع الأطراف المتحاربة، الهدف منها معالجة آلاف القضايا التي تمس المدنيين المشردين نتيجة للنزاع، بما في ذلك ضمان حقوقهم في السكن والأرض والملكية.
ويشير التقرير في الفقرتين (90 و91) إلى أن التحديات المتعلقة بحماية حقوق السكن والأرض والملكية للأفراد والمجتمعات المحلية في جميع أنحاء الجمهورية العربية السورية قد تفاقمت خلال فترة النزاع، وإلى أن المرسوم (أو “القانون”) الرئاسي رقم 10، الذي يوسع المرسوم الرئاسي رقم 66/2012 ويعدله، لا يبدو أنه يأخذ في الحسبان مسألة الأشخاص المفقودين، أو الأسر المعيشية التي تعيلها امرأة، أو الصفقات التي تجرى بحسن نية في مجالات لا تخضع لرقابة الحكومة، أو الحواجز أمام حماية حقوق الملكية عن بعد، أو عدم وجود وثائق سجل مدني لجزء كبير من النازحين. وإضافة إلى ذلك، يُبين استعراض اللجنة للتشريع القائم أن المرسوم الرئاسي 19/2012 المتعلق بمكافحة الإرهاب يجيز للدولة أن تصادر ممتلكات الأشخاص الذين يدانون بمجموعة واسعة من الجرائم.
المحامي محمد الجوجة، عضو الرابطة السورية لكرامة المواطن يتحدث عن التعويضات التي يمكن للمهجرين الحصول عليها: “هناك أنواع من التعويضات يجب أن يحصل عليها المهجرون ومنها، محاسبة الجهة التي أدت إلى تهجيرهم، وتعويضات تتعلق بالملكية. وفي الحالتين يحتاج الأمر إلى اثبات مسؤولية الجهة التي أدت إلى تهجيرهم لمحاسبتها”.
ويتابع: “اثبات مسؤولة الدولة السورية عن فعل التهجير وتقصيرها بحماية المدنيين ليس بالأمر السهل في الوضع الحالي، فالقضاء الوطني مسيس ولا يزال يخضع للسلطة الحاكمة. وأساساً هو قضاء فاسد. ومن جانب الجهات الأخرى كالجماعات المتطرفة أو الفصائل المعارضة وغيرها من التسميات، والتي شاركت بعملية التهجير فهناك صعوبة أيضا في محاسبتها، فهي ليست دول، ليس لديها حسابات مصرفية مثلا، حتى هيكليتها غير واضحة، ولكن يمكن محاسبة مسؤوليها وأفرادها كجناة”.
وعن المحاكم التي من خلالها يمكن تعويض المهجرين يقول الجوجة: “إن كل انواع المحاكم الدولية يبقى اثرها محدود ونطاقها ضيق، لذلك فإن الحل الأنسب هو إيجاد محاكم وقضاء وطني، ويتم ذلك من خلال تمكين السوريين من قيادة عملية انتقال سياسية حقيقية، تمكنهم من اعادة هيكلة اجهزة الدولة السورية ومؤسساتها، حينها يمكن تحقيق العدالة عبر قضاء وطني مستقل”.
كنا بالمئات، نقلتنا حوالي 90 حافلة من مدينتي درعا والقنيطرة في جنوب سوريا إلى معبر مورك في ريف حماة خلال رحلة دامت ما يقارب 25 ساعة. نجونا جسدياً من قصف ورصاصات موجهة وطائشة، ولكن لا أعلم إن كانت روحي ستنجو من فقدان وفراق الأرض، المنزل، الأهل والأحبة. هذا ما كنت أحدث به نفسي وأنا أنظر لوجهي في مرآة السيارة، والتي عكست فجأة صورة سيدة أمسك بطرف ثوبها طفل صغير وهي تجرّه وتجرّ نفسها جرّاً ، وتستمر بالنظر بين لحظة وأخرى إلى الوراء. لا أعلم إن كانت تبحث عن أحد تركته خلفها أم كانت تتساءل عن إمكانية عودتها يوما ما إلى دارها وديارها كما كنت أتساءل أنا.