الفصل من الوظيفة للتضييق على المعارضين في سوريا
سالم ناصيف
تعاقب السلطة في دمشق الموظفين المعارضين ممن تعرضوا للاعتقال في الفروع الأمنية بعقوبة الفصل من الوظيفة، متجاوزةً تلك القوانين التي لا تجيز إصدار عقوبة الفصل من الوظيفة إلا بحالات محددة وردت في قانون العاملين بالدولة، والذي نصّ صراحة على إمكانية إصدار تلك العقوبة، ولكنه حصرها بقرار صادر عن رئاسة مجلس الوزراء فقط.
حسب رأي حقوقيين، فإن تلك الإجراءات يتم اتخاذها بعيداً عن القرارات القضائية، ويتم تنفيذها بموجب مذكرات مرفوعة من فروع الأمن إلى المحافظين، الذين يرسلونها بدورهم إلى الإدارات المعنية بموجب قرارات صادرة عنهم، لاتخاذ إجراءات الفصل بحق من يرد اسمه في تلك المذكرات. وغالباً ما تكون ذريعة الفصل الغياب غير المبرر عن الوظيفة لمدة زمنية تزيد عن خمسة عشر يوماً، وهي المدة التي قضاها الموظف في المعتقل.
حول تجاوزات القانون لجهة الفصل من الوظيفة يتهم المحامي ناصر (57 عاماً) الأجهزة الإدارية بتجاوز “حتى النصوص القانونية السيئة الموضوعة سابقاً والمتمثلة بالقانون 50 للعام 2004 للعاملين، والتي تحرم الموظف من الطعن بقرار فصله” ويضيف إن قانون التظاهر لم يرد فيه نص يحرم من يخالفه من وظيفته، وفي ذات الوقت قد يكون فعل التظاهر سبباً للصرف من الوظيفة لكن نص قرار الصرف لا يتضمن الإشارة إلى هذا السبب، لأن القانون أعفى الجهة الحكومية المشغلة من ذكر المبرر أو السبب عند رفع مذكرة صرف إلى مجلس الوزراء.
ويضيف ناصر: “لدينا مشكلة مع الجهات الإدارية فهي ليست متعسفة وحسب، بل إنها أداة أمنية، وقد واجهتنا حالات عديدة لم يجرؤ فيها حتى المحافظ أن يعيد موظفاً إلى عمله رغم حصوله على ما يبرر غيابه. ويبقى القرار أمنياً بامتياز، أما القضاء عند إمكانية اللجوء إليه هو أيضاً يقف موقف المتخاذل”.
يعتبر القطاع العام في سوريا سوق العمل الأكبر للسوريين، ويرتبط به مصير مئات الآلاف من العائلات، وحسب إحصاءات عام 2010 بلغ عدد الموظفين والعاملين في الدولة المليون شخص، هذا عدا عن أعداد العسكريين الذين لا يذكرون في هكذا إحصائيات لاعتبارات أمنية.
جرت العادة أن تصدر مراسيم بحالات الفصل التي تتخذها الحكومة وتنشر في الصحف الرسمية، لكن منذ بداية الثورة لم يصدر في الإعلام عن الحكومة إلا قراراً واحدا في 18 تشرين ثاني/ نوفمبر 2012 حين أصدر رئيس الحكومة وائل الحلقي قراراً يقضي بفصل 90 موظفاً ليدخل حيز التنفيذ بعد شهر، أغلبهم من المعارضين ويعمل أكثرهم بالتدريس، كان قد سبق ذلك إمّا استدعاؤهم أو اعتقالهم من قبل الأجهزة الأمنية. أما باقي القرارات الصادرة فكانت غائبة عن التداول في إعلام السلطة، واقتصر صدورها على قرارات أرسلت إلى الإدارات.
لم يلق ملف المفصولين من وظائفهم الاهتمام المطلوب، إلا عبر بعض بيانات التنديد ولم يتم العمل عليه بشكل إحصائي منظم، باستثناء محاولات فردية حاولت تدوين حالات الفصل بشكل مناطقي كما حدث في إدلب وحلب.
فبقي هذا الملف غائباً عن أولويات المؤسسات المهتمة بحقوق الإنسان ومراكز توثيق الانتهاكات، وحتى فصائل المعارضة لم تعره الاهتمام المطلوب، ولا محاولة إيجاد حل لهذا الملف كصرف تعويضات على سبيل المثال.
تعتقد ايارا (31 عاماً) وهي ناشطة تعمل على توثيق حالات الاعتقال أن التقصير بملف المفصولين ربما يكون بسبب تصدر ملفات الشهداء والنازحين الاهتمام من جهة، وصعوبة التفريق بين الأشخاص الذين تم فصلهم نتيجة الاعتقال، وبين منأقدم على ترك العمل طواعية نتيجة موقف أشبه بالعصيان المدني أو مقاطعة العمل الحكومي للالتحاق بالثورة.
وترى يارا أن “عقوبة الفصل الوظيفي من أبرز الأسلحة التي يعتمدها النظام في تقويض حركة المعارضين، للتأثير سلباً على الثورة وتضع العديد من أفراد المجتمع السوري في مأزق حقيقي، فليس المفصول من يدفع الثمن وحده، بل كامل الأسرة”.
هادي (33 عاماً)، الذي كان يعمل مهندساً زراعياً في القطاع العام، يجد في عقوبة فصله من الخدمة انتقاماً من عائلته المؤلفة من خمسة أفراد، والتي كانت تعتمد بشكل أساسي على راتب 18000 ليرة سورية (ما يساوي حالياً حوالي 90 دولار بعد انخفاض سعر صرف الليرة السورية مؤخراً) كان يتقاضاها ويقتطع أكثر من ربعها مقابل قرضٍ سبق أن استدانه قبل الثورة من أحد المصارف الحكومية (قرض تسليف شعبي يسدد على أربع سنوات).
اعتقل هادي بسبب نشاطه المعارض، ورغم أنه خرج من المعتقل أوائل نيسان/ أبريل وطويت قضيته سريعاً بموجب مرسوم العفو الأخير، إلا أنه أوقف عن العمل وقطع راتبه فور خروجه، وعند المراجعة تبين أن القرار قد رفع إلى إدارته بموجب كتاب صدر عن المحافظ، وأنه بحاجة إلى موافقة أمنية حتى يعود إلى الوظيفة، وهذا من المستحيل تحقيقه كما يعتقد هادي.
لم يبق لدى عائلة هادي من مصادر الدخل سوى مبلغ 6000 ليرة سورية (حوالي 30 دولار) لقاءإيجار شقة سكنية صغيرة يملكونها وكحال الكثير من العائلات السورية، اضطرت عائلة هادي لبيع ما لديها من قطع قليلة من الذهب لتدبر أمر معيشتها في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. واليوم يبحث هادي عن فرصة للسفر بعد أن ضاقت به احتمالات إيجاد عمل، لكنه متخوف من الاعتقال مجددا ً لاحتمال أن يكون اسمه مدرجاً في قوائم منع السفر.
قصص كثيرة تروى عن المفصولين من أعمالهم، منها ما يلخص بمأساته ما يحدث في سوريا بشكل عام، ومنها ما هو مثير للضحك رغم مأساويته. تبدأ رواية كمال (47 عاماً) عند اعتقاله في حزيران/ يونيو 2012، على خلفية مشاركته باعتصام سلمي، حين قال له رئيس فرع الأمن: “أنت معارض سلميّ “باين عليك” لكن تذكّر جيداً أنه في سوريا لا يوجد معارضين، بل هناك فقط إما إرهابيين أو موالين للرئيس”.
فوجئ كمال بعد خروجه من المعتقل، بقرار نقله من مكان عمله إلى إحدى المديريات التابعة للوزارة التي يعمل فيها، والتي تلزمه بخدمتها مدة من السنوات كشرط نصّ عليه قانون المنحة الدراسية في الدراسات العليا. تلك الشروط التي منعته من مزاولة أي مهنة ثانية ولا يحق له الاستقالة.
يقول كمال: “دخلت المقر الجديد فوجدت بعض المنقولين مثلي، استقبلني أحدهم قائلاً: أنت الطبيب المنقول معنا؟ تفضل ارتاح، هيك صار عددنا 11 طبيباً لكن قالوا إنك ستداوم بالمستوصف! أجبته: نعم أنا المنقول لكني لست بطبيب، أنا دكتور مهندس”!
أمضى كمال قرابة الشهر في مقر عمله الجديد، قضاها في شرب القهوة والشاي وهو ينتظر انتهاء” ساعات الأسر”، بحسب وصفه، حتى بلوغ الساعة الثالثة والنصف من كل يوم وهو الوقت المقرر للدوام.
بعد ذلك تم توقيف راتب كمال، وعند مراجعة الجهة المعنية قالوا له إنه موقوف عن مزاولة العمل، ومنذ ذلك الوقت يعمل كمال “حكواتي سياسة”، بحسب تعبيره الساخر.