الغوطة… حيث العلف مسموح والخبز ممنوع
(الغوطة الشرقية، سوريا) – الزمان: الثالثة بعد الظهر
المكان: حاجز المليحة، الغوطة الشرقية
وقت الانتظار المتوقع: ثلاث إلى خمس ساعات
السبب: التفتيش الدقيق والصارم عن الخبز!
تصطف حافلة ضمن رتل سيارات خاصة وعامة، يمتد حوالي كيلو متر، للعبور من حاجز المليحة، إحدى النقطتين الأخيرتين للوصول إلى الغوطة الشرقية، بعد إغلاق المنافذ الأخرى أمام السكان.
تبدأ محاولات بعض الركاب لإخفاء الخبز وكميات بسيطة من الخضروات التي يحملونها، تحت الكرسي، في شق في السقف، تحت الثياب، وسط انتقادات ركاب آخرين أن لا جدوى من ذلك. يعطي البعض رأيه في أن الدعاء وقراءة سورة ياسين، هو أحسن ما يمكن فعله، علّ الضابط المسؤول يسمح بمرور ما حمل البعض من غذاء.
بعد مرور وقت يزجيه الركاب بالأحاديث اليومية عن الغلاء، والقصف، ومن مات، تبلغ الحافلة الحاجز. ينزل الركاب جميعاً، يفتّش الجندي الحافلة الفارغة، ويقف عند الباب، ليعرض كل راكب هويته وما يحمل من أشياء قبل الصعود. يرفض الجندي تضرعاً طويلاً من امرأة عجوز، ترجوه أن يسمح لها بإدخال ما لديها من الخبز. يستأنف الباص مسيره بوجوه واجمة، تاركة وراءها على الأرض كومة من الخبز والخضار والسكر، وأما من رفض التخلي عما يحمل، فقد عاد أدراجه إلى دمشق.
هذه هي القصة اليومية لمعظم سكان الغوطة الشرقية في ريف دمشق، التي تسيطر المعارضة على معظم أنحائها وتعرضت الشهر الماضي لضربة بالسلاح الكيميائي.
ويقارب عدد سكان المنطقة اليوم المليون بعدما نزح مليون آخرين، بحسب تقديرات هيئات محلية. فمنذ ما يقرب الأشهر الثلاثة، بدأ عناصر المعبرين الأخيرين إلى المنطقة يطبقان تدريجياً لائحة بتعليمات المرور: لا يسمح بدخول السيارات إلى الغوطة بخزانات وقود ممتلئة أكثر من نصفها، ولا إدخال أكثر من خمسة كيلوغرامات من المواد الغذائية بالنسبة إلى الأهالي، ومُنع عندها موزعو الأغذية من عبور الحواجز. ولم يمضِ أسبوعان حتى صار يرفض دخول أي كان بأكثر من كيلوغرام واحد من الخبز، وكيلو غرام آخر من نوع غذائي واحد فقط، ليتوقف بعدها السماح بإدخال تلك الكمية من دون حمل دفتر العائلة، ويمنع أخيراً إدخال أي شيء لأي كان.
آرام (اسم مستعار)، ناشط إغاثي في الغوطة، اعتاد إدخال السلال الغذائية إلى منطقتي دوما وعربين، عبر رشوة الحواجز، لم يعد بإمكانه إدخال أي مواد غذائية. يقول آرام لـ”دماسكوس بيورو”: “لا نستطيع إدخال أي مواد عينية اليوم. نأتي بالنقود، ونشتري المواد هنا بأضعاف السعر الذي تباع به في دمشق، إن وجدت، فالطحين والسكر مفقودان بشكل كامل”.
يرى آرام أن النظام يفرض هذا الحصار لإفقاد “الجيش الحر” حاضنته الشعبية، ويشاركه محمود عضو “المجلس المحلي في المليحة” رأيه، ويقول: “يحاول النظام محاربتنا بلقمة العيش. وجدنا منشورات تحث الناس على التظاهر ضدنا؛ عندها سيقوم بإدخال الغذاء، وكأننا نحن سبب الحصار، وليس هو من يجوّع الناس”.
حسّان، من دمشق، مهندس سابق، يعمل اليوم “حمّالاً إغاثياً” كما يصف نفسه، يقوم هو وعدد من أصدقائه بحمل أكياس الطحين وحليب الأطفال، عبر طريق يحاصره خطر القناصين والألغام، يقول: “منذ فترة مات خمسون شاباً، في محاولة لإدخال الطحين من الضمير إلى ميدعة، ونحن ننتظر المصير نفسه، إن استمر الحصار، ولكن لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي، والأطفال بحاجة للحليب والدواء”.
محاولات الناشطين تلك، لا تفي إلا بجزء يسير من حاجات الناس، ويزيد في الأمر سوءاً انقطاع الكهرباء بشكل كامل وتوليدها عند الضرورة باستخدام البنزين، الذي يبلغ سعره في الريف أكثر من ثلاثة أضعافه في المدينة، إن وجد، الأمر الذي أدى لغياب وسائل حفظ الأطعمة، على شحها وندرتها.
هذا وتغيب فرص العمل بشكل شبه كامل، إلا من بعض الأعمال البسيطة التي لا يتناسب مردودها مع الارتفاع المضطرد في الأسعار، والذي يضع الكثيرين في فقر مدقع. محمد (14 عاماً) يعيل أسرته عبر بيع العصائر قريباً من منزله، ويجني في اليوم حوالي الثلاثمئة ليرة، ويقول: “ليس بإمكاني العمل في دمشق فأنا مطلوب للأمن، والدي قتل، وإخوتي صغار”. ويضيف بسخرية: “لولا بعض المساعدات، لكنّا اليوم أكثر رشاقة مما نحن عليه”.
فقد محمد من وزنه حوالي عشر كيلوغرامات من بداية الأحداث، ويعزو ذلك لقلة الخبز، الذي اعتاده الناس في الغوطة مكوناً أساسياً في الغذاء.
ويرى أبو أحمد، وهو بائع في بقالية في المنطقة، بعد أن سُرقت صالة المفروشات الضخمة التي كان يمتلكها، أن سبب الحصار المفروض، هو فشل مقاتلي المعارضة بالقيام بمهامهم، حسب رأيه، فهم من سدّوا منافذ الغوطة واحداً تلو الآخر، “بعد بدئهم معارك لم يكونوا كفؤاً لها”. يقول أبو أحمد إن نتيجة هذه المواجهة كانت قطع كافة الطرقات المؤدية إلى الغوطة، ووضعها في حالة حرب مع النظام، الأمر الذي لم يختره هو وكثيرون.
في رد على الإجراءات الحكومية، منعت المجالس المحلية في الغوطة إخراج اللحوم والألبان لبيعها في دمشق، في محاولة لفرض حصار مقابل، ما رفع أسعار اللحوم في دمشق إلى أضعاف سعرها في الغوطة، وأثار استياء كثير من مربّي الحيوانات، الذين يرون في منعهم من المتاجرة ببضائعهم كما يرغبون، ظلماً كبيراً.
يقول محمود، عضو “المجلس المحلي في المليحة”، الذي فرض بالقوة منع الإتجار بمنتجات الغوطة في دمشق “من يبيع في دمشق، هو شريك في تجويع أهالي الغوطة، وإفقادهم أوراق قوة يجبرون بها النظام على فك الحصار”.
حاجز القوات الحكومية النظام بدوره، أرسل بعد أيام من منع اللحوم عن دمشق، عرضاً يقبل فيه بدخول العلف للحيوانات، إن سُمِح باخراج اللحوم من الغوطة.
يقول محمود إن المجلس المحلي “صار دوره اليوم الحفاظ على حياة من بقوا” وهو يبحث عن بدائل المواد الغذائية المفقودة.
“رددنا عليهم بأن يأكلوا هم العلف إن أرادوا، إن كانت حياتنا لا تعني لهم شيئاً كما يُفهم من عرضهم”.
وعلم موقع “دماسكوس بيورو” من ناشطين محليين أن المجالس المحلية أوقفت الأسبوع الماضي الحظر على إخراج اللحوم والألبان إلى دمشق بسبب الاستياء الواسع بين مربي المواشي وتجار اللحوم والألبان.