الغش التجاري يحصد الأرواح في القامشلي

فيان محمد

(القامشلي، سوريا) – بعد يوم من تغيب سيبر عن العمل، تفاجأ زملاؤه بخبر وفاته في مشفى القامشلي الوطني. كان سيبر يعاني من تلبك معوي وإقياء، بالإضافة إلى ألم حاد بالرأس، حسب قول هوشين صديقه وزميله في العمل.

وشخّص أطباء المشفى الوطني حالة سيبر بأنه تسمم كحولي. وأكد الدكتور آراس عبد العزيز أن أعراض التسمم الكحولي تظهر بين 24 و48 ساعة بعد تناول مشروب يحتوي على نسبة عالية من الكحول الميتالي (ميتانول). ويشرح عبد العزيز الأعراض بأن المريض يفقد البصر وبعدها يصاب بفشل كلوي ثم تتوقف جميع وظائف الجسم.

سوق للمواد الغذائية في القامشلي – موقع "المحطة"
سوق للمواد الغذائية في القامشلي – موقع المحطة

وكانت الحصيلة الأكبر من الوفيات جراء التسمم الكحولي في القامشلي قد سجلت في شهر أيلول/ سبتمبر من 2013، حين أعلن مدير المشفى الوطني عمر العاكوب عن وفاة 11 شخص في غضون بضعة أيام بسبب نسبة تناول مشروبات كحولية تحتوي على نسبة عالية من الميتانول.

والكحول الميتالي (ميتانول) سائل لا لون له يشبه في رائحته الكحول الإيتيلي (إيتانول)، وهو الكحول الطبي والمكون الاساسي في المشروبات الكحولية. يوجد الميتانول بنسبة قليلة في كل أنواع الكحوليات. ومن الممكن أن يتواجد بتركيز أكبر في كحوليات منتجة بشكل مغشوش، ما يعرض المستهلكين للخطر.

وتباع المشروبات الكحولية بشكل علني في القامشلي في بعض المحلات التجارية، لا سيما في شارع الوحدة ذي الأغلبية المسيحية. وتملك هذه المحلات ترخيصاً من الدولة. ميني ماركت أبو عزو مثال على ذلك. يبيع المتجر المواد الغذائية ومواد التنظيف والشوكولا والبسكويت وغيرها، بالإضافة إلى المشروبات الكحولية، المستوردة من الخارج، والسورية الصنع والمنتجة في القامشلي. ويقول صاحب الميني ماركت أبو عزو “إن أسعار الكحوليات ارتفعت خلال الأشهر الأخيرة بشكل كبير. فسعر صندوق البيرة التركية المستورد عن طريق العراق كان يباع بأربعة آلاف ليرة وحالياً أصبح يباع بثمانية آلاف ليرة سورية. وذلك بسبب ارتفاع تكاليف الشحن. أما “بيرة الشرق” التي تنتج في حلب فكانت تباع الزجاجة بـ 35 ليرة والآن إن وجدت تباع بـ 150 ليرة سورية”. وشجع ارتفاع الأسعار هذا البعض في القامشلي على تصنيع مشروبات كحولية مثل الويسكي والعرق والنبيذ في بيوتهم وعرضها على المحلات التجارية.

وجاءت وفيات التسمم الكحولي بعد إصابة 14 طفلاً من منطقة علاية في القامشلي، بحالات إسهال متواصلة دفعت الأطباء إلى الاعتقاد أنها إصابات بالكوليرا. ولكن بعد الفحص تبين أن الأطفال كلهم تناول لحم فروج مثلج مستورد من تركيا حسبما قال الدكتور علي إلياس من المجلس الصحي الكردي في القامشلي.

حالات التسمم هذه تأتي في وقت تعاني فيه القامشلي من نقص حاد في كافة المواد الغذائية نتيجة صعوبات كبيرة في نقل البضائع إلى المدينة. هناك حواجز تنتشر على الطرق المؤدية إلى القامشلي، تصادر البضاعة أو تطلب أتاوات في كثير من الأحيان، ومن الصعب تحديد انتماءاتها السياسية في كثير من الأحيان. ويجازف التجار أحياناً بدفع أتاوات لقطاع الطرق، فتباع البضاعة بأسعار مرتفعة. أما بالنسبة إلى البضائع المستوردة، فغالباً ما تدخل عن طريق معبر سيمالكا مع كردستان العراق الذي يقع تحت سيطرة الهيئة الكردية العليا.

وتمتلئ أسواق القامشلي ببضائع من بلدان مختلفة، تركيا، الإمارات العربية المتحدة أو السعودية، ولا سيما المواد الغذائية مثل حليب الأطفال والزيوت والسمن ومواد التنظيف وحتى الشوكولا والبسكويت واللحم المثلج.

المنتجات الغذائية الأجنبية والمحلية التي تباع في المحلات التجارية أو على البسطات في المدينة، لا تخضع لأي رقابة للتأكد من مدى صلاحيتها للاستهلاك البشري. وكانت مؤسسة التموين في القامشلي تقوم قبل إندلاع الثورة في آذار/مارس 2011 بدوريات منتظمة على المحلات التجارية والمطاعم والمخابز من أجل التأكد من جودة المنتجات ومدى التزامها بلائحة الاسعار التي وضعتها الدولة. وتقع مسؤولية الرقابة التموينية في المدينة على عاتق الدائرة التموينية والمجلس المحلي. حاولت مراسلة “دماسكوس بيورو” أكثر من استصراح موظفي الدائرة التموينية عن سبب التقاعص ولكن بلا جدوى. وتتبع الدائرة التموينية لمحافظة الحسكة التي ما زالت خاضعة لنظام الرئيس بشار الأسد.

أما المجلس الصحي الكردي التابع للمجلس المحلي الذي يسيطر عليه حزب الاتحاد الديموقراطي فهو يفتقر للخبرات والكفاءات الضرورية. ويقول الدكتور علي إلياس من المجلس الصحي أنه لا توجد لدى المجلس مختبرات متخصصة لإجراء الفحوصات الضرورية للعينات التي يأخذونها من المواد الغذائية، ولكنهم يرسلون البعض منها إلى تركيا كما فعلوا مع عينات من اللحم المثلج المستورد من هناك. وأصدر المجلس الصحي بعد استلامه نتائج التحليل بيانا يحذر المستهلكين من أكل اللحوم المثلجة المستوردة من تركية لأنها غير صالحة للاستهلاك بسبب ظروف النقل والتخزين السيئة. وقام “الأسايش” (جهاز الشرطة التابع للـ”هيئة الكردية العليا”) إثر ذلك بمنع بعض البسطات التي تبيع هذا النوع من اللحوم.

وتثير حالات التسمم قلق المجتمع المدني في القامشلي وتدفعه إلى اتخاذ مبادارات لحماية المستهلكين. يقول عضو مركز “روج” غير الحكومي لحماية البيئة الدكتور البيطري أصلان حسو: “بعد أن شاهدنا  الكثير من المواد الغذائية وخاصة اللحوم تباع في الشوارع مكشوفة من دون تبريد، ولم تبادر دوريات التموين إلى فحص هذه المنتجات للتأكد من صلاحيتها. شكّل المركز لجاناً من أطباء بيطريين ومخبريين متطوعين من أجل فحص لحوم ومعلبات مستوردة من تركية. وتبين لنا أنها غير صالحة للاستهلاك البشري”. وبحسب ما نقله حسو عن مصادر خاصة فإن شحنات لحم الفروج كثيرا ما تنقل من مستودعات في بلد المنشأ، والتي هي تركيا بشاحنات كبيرة بدلا من البرادات المجهزة لشحن هكذا مواد، وتضطر إلى الإنتظار عدة أيام على المعبر الحدودي قبل دخولها إلى الأراضي السورية.

وفشلت محاولات حسو لإيجاد نوع من التنسيق بين مركز روج ومديرية التموين لتسيير دوريات للتأكد من مدى صلاحية المنتجات الغذائية، بعدما لم ترد المديرية على محاولاته تلك.

حالات التسمم الكحولي التي تسببت بوفاة 11 شخصاً من سكان القامشلي لم ينتج عنها تبعات قانونية. ويقول أحمد درويش من الإدارة العامة للـ”أسايش” في القامشلي بأن أحداً من أهالي الضحايا المسلمين لم يتقدم بشكوى أو يرفع قضية لديهم بسبب الكحول المغشوش: “من سيتجرأ على القول ان ابنه مات بجرعة مشروب!”.

وبعد التصريحات التي أدلى بها أطباء المشفى الوطني بأن حالات التسمم بالكحول الميتالي تعود إلى كحول مصنوع في القامشلي، حققت وحدات تابعة لجهاز “أسايش” مع بعض الأشخاص المعروف عنهم في المدينة العمل بإنتاج مشروب كحولي. وتم إتلاف كميات كبيرة من المشروب عُثر عليه في مخازنهم ولكن لم يتم ترفع قضية ضد أحد ولم يصدر قراراً بمنع إنتاج الكحول.

حالياً وحتى في المتاجر المرخص لها اختفت المشروبات الكحولية المصنعة في القامشلي. ويرد أبو عزو صاحب الميني ماركت السبب إلى خبر الوفيات بفعل التسمم.