العيش تحت القصف أفضل من اللجوء ولكن …

"لم يكن راتب الوظيفة يتناسب مع وقت عمله. كان يعمل 16 ساعة متواصلة في اليوم الواحد، مقابل 15 ليرة تركية يومياً. وتحمّل ظروف العمل الشاق وساعات العمل الطويلة حتى يتوفر له فرصةٌ أفضل"

تركنا سوريا في 4 يناير/ كانون الثاني 2012. أقمت مع أسرة زوجي في مدينة الريحانية. كان زوجي يزورنا مرة كل شهر مستفيدا من سهولة الانتقال عبر الحدود حينها. لم يستطع الانتقال إلى تركيا نهائياً لالتزامه بوظيفته الحكومية. كانت وظيفته مصدر رزقنا الوحيد.
لم أكن أتوقع أن بقائي في تركيا سيدوم لأكثر من أيام أو شهر في أسوأ الأحوال. لذلك لم أفكر أن يترك زوجي وظيفته الحكومية التي كان يزاولها ويأتي ليسكن معنا أنا واولادي واهله في تركيا. بقي مدة سنة كاملة ملتحقاً بوظيفته، ونحن نتوقع أن تهدأ الاوضاع ونعود لنسكن في قريتنا التي تقع ريف حماه الجنوبي.
يوماً بعد يوم وأسبوعا بعد اسبوعـ وبدأت الاشهر تمرّ دون أي تغيير للأفضل في منطقتنا. بالعكس وجدنا أن الأحوال تسير من سيء إلى اسوأ. حتى ذهاب زوجي إلى عمله كانت فيه مخاطرة. كان عمله في قرية مجاوره لقريتنا، وكان يجب أن يمر على عدة حواجز.
كنا كل يوم نتوقع أن يلفقوا له تهمة ويلقوا القبض عليه. هذه الأشياء حدثت كثيراً للموظفين وغيرهم، ليقايضوا أهل المعتقلين بالمال! وعندما مللنا انتظار تحسن الأحوال وراتبه الحكومي لم يعد يكفي كلفة تنقله بين سوريا وتركيا. طلبنا منه القدوم والبحث عن مصدر رزق أفضل في تركيا. وفعلاً لم يتردد لأنه كان أيضا قد شعر بالإرهاق من هذه المعاناة النفسية اليومية، وكلام جنود الحاجز ونظراتهم. ولعدم وجودنا إلى جانبه.
لم يكن أمر الحصول على عمل بهذه السهولة. فرص العمل في المدينة التي كنا نسكنها كانت قليلة جداً. يقتصر الأمر على العمل في زراعة الأراضي أو فتح محل تجاري. ولم نكن نملك المال للقيام بأي مشروع مهما كان صغيراً.
كان أغلب سكان البلدة يخرجون للعمل في اسطنبول إو إحدى المدن الكبيرة. مضت أشهر تقريباً على زوجي في البيت دون عمل. ولكن لحسن حظنا قررت إحدى المنظمات افتتاح مخبز للسوريين. وطلبت عمالاً من كل الاختصاصات. وتقدم زوجي للعمل. وبعد فترة وجيزة تم قبوله.
لم يكن راتب الوظيفة يتناسب مع وقت عمله. كان يعمل 16 ساعة متواصلة في اليوم الواحد، مقابل 15 ليرة تركية يومياً. وتحمّل ظروف العمل الشاق وساعات العمل الطويلة حتى يتوفر له فرصةٌ أفضل. تحسنت ظروف العمل سنةً بعد سنة. ومعها تناقصت ساعات عمل زوجي وازداد راتبه شيئاً طفيفاً.
اعتاد زوجي على العمل ولم يعد يهمه إلّا أن لديه دخلا شهرياً يعيلنا منه. بالإضافة الى أنه كان له حصة مجانيه من الخبز يومياً. بعد مرور أربع سنوات على عمل زوجي في المخبز، حصل ما لم نكن نتوقعه فقد توقف دعم المخبز تقريباً. وكان من الواجب تسريح بعض العمال لتخفيف الاعباء. وللأسف كان زوجي من ضمن ثلاثين عاملاً ممن تم تسريحهم بعد سنواتٍ من التعب في هذا المخبز!!
كان الخبر صاعقاً علينا. اذ لم نتوقع أن يحصل هذا في يوم. لم يكن هناك ما يوحي بذلك، ولكن حصل! عشنا ظروفاً قاسية جداً، لمدة شهرين لم نعرف ماذا سيعمل زوجي بعدها! إلى أين ستكون رحلتنا القادمه؟ في أي بلد أو مدينة سيكون عملنا؟ العيش بلا عمل في بلاد غير بلادك أمر مستحيل. إذ أنك إن لم تأكل أو تشرب حتى يترتب عليك إيجار منزل. ولم تكن الإيجارات سهلة أبداً. وكان يجب أن نجد عملاً في أسرع وقت قبل أن يأتي موعد إيجار المنزل ونحن لا نملك ما ندفعه!
مضى الشهر الأول ولم يتغير شيء. كان الفصل شتاءً وفرص العمل انعدمت تقريباً. ويجب الانتظار للصيف حتى نستطيع إيجاد عمل. ولم يكن الوضع يحتمل أن ننتظر أسبوعاً واحداً، وليس شهراً! فلدينا أطفال في المدارس. ويتوجب علينا دفع أجور لباصات المدرسة.
بعد مرور شهر ونصف ونحن في ضيق وكدر وصعوبة إيجاد عمل. اتخذنا قراراً بالعوده إلى سوريا. وجدنا أن العيش تحت القصف أرحم بكثير من البقاء بهذه الظروف. وقبل تنفيذ قرار العودة، المنظمة عادت وأرسلت الى كل العمال أن يعودوا للالتحاق بعملهم! واعلموهم أنه تم ايجاد داعمين حدد للمخبز.
كان خبر عودة العمال إلى عملهم كأنه الحلم. كأن الشهرين اللذين مضيا كانا كابوساً مرعباً. بدأ العمال بتهنئة بعضهم كأنه العيد. لا أدري ماذا كان سيكون مصيرنا لو أن زوجي لم يعد لعمله؟ خاصة أن لدي أطفالاً في المدارس. فلو عدت ‘لى سوريا فالتعليم فيها شبه منعدم. كان هذا أكثر شيء فكرت فيه. كنت سأتحمل الجوع والفقر ولكن لن أتحمل أن يكون اطفالي جهلة بلا شهادات!
شبح تسريح زوجي من عمله قبل سنة لا زال يلازمني إلى اليوم! وأحاول البحث عن عمل لإيجاد مصدر رزق يساعدنا في حالات الطوارئ،، غير المتوقعة. لا أريد أن أعيد مأساتي في التفكير بماذا سيحدث لو أن زوحي لم يعد يملك عملاً من جديد!
شيء موحش جدا شعور الحاجة! والأصعب أن تجد نفسك قد ألقيت خارج عملك الذي ساعدت في ازدهاره في غمضة عين وبلا سابق إنذار،، كأنك تسكن في العراء!
فاطمه إبراهيم (38 عاماً) ربة منزل، أم لثلاثة أطفال. نازحة مع أسرتها في تركيا حيث تبحث عن عمل.